معركة الجمل بين المغالطة والإنصاف (1-3)

تمهيد
أثار مسلسل معاوية، الذي يبث حالياً على قناة إم بي سي، الكثير من الكتابات، وخاصة اليمنية، ويدور الكثير من الجدل مع أو ضد ما جاء فيه، ناكئاً أوجاعاً كبيرة عند اليمنيين من الإمامة، لم يسلم حتى الصحابي الجليل والخليفة الرابع علي بن أبي طالب من بعض السهام الطائشة.
ونظراً للجرائم الإمامية عبر التاريخ، وجرائم الحوثية الإرهابية اليوم وحلفها الفارسي، والمشروع الهاشمي عبر التاريخ، نقم اليمنيون على الهاشميين بشكل عام، ولهم الحق في ذلك؛ فما حل باليمن من تدمير وخراب وقتل وتشريد وإرهاب وتخلف ونهب لم يكن هيناً أبداً. ووصل بالرأي اليمني المتشكل حديثاً النقمة على كل هاشمي بما في ذلك الجذور نفسها وصولاً إلى الخليفة علي بن أبي طالب –رضي الله عنه-، وهنا نقطة الخلاف في الغلو بهذا الكره، والانتقائية بالشواهد التاريخية للأحداث.
سيظل موقفي دائماً وأبداً أن أخرج الصحابي الجليل علي بن أبي طالب من أي قدح أو غمز أو لمز كونه من الرعيل الأول الذين آمنوا وصحبوا النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكون كل جرائم الهاشمية الإمامية في البلاد الإسلامية لم تتشكل وتظهر إلا بعده بأجيال، ولا علاقة له بها، وكونه من المؤمنين الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه بتزكية القرآن وتزكية رب العالمين، وكون النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى المسلمين عموماً عن أي تجريح أو غمز أو لمز بالصحابة عموماً، وأصحابه المقربين خصوصاً، فقال صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس: إن أبا بكر لم يسؤني قط، فاعرفوا ذلك له. أيها الناس: إني عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وعبدالرحمن بن عوف والمهاجرين الأولين راضٍ، فاعرفوا ذلك لهم. أيها الناس: إحفظوني في أصحابي وأصهاري وأحبابي، لا يطلبنكم الله بمظلمة أحد منهم. أيها الناس: إرفعوا ألسنتكم عن المسلمين، وإذا مات أحدهم فقولوا فيه خيراً".
وقوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي أخرجه مسلم عن أبي هريرة: "لا تسبوا أصحابي، لا تسبوا أصحابي، فو الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مُد أحدهم ولا نصيفه".
وماذا يساوي أحدٌ اليوم أمام ما قدمه الرعيل الأول لهذه الأمة ولهذا الدين؟!
فلا يجرمننا شنآن قوم على أن لا نعدل في كتاباتنا ومواقفنا من الأحداث؛ خاصة التاريخية بين المسلمين.
لقد بلغ من عدم الإنصاف وعدم الالتزام الأخلاقي والأمانة العلمية في التناولات الكتابية لكثير من اليمنيين التحامل على علي بن أبي طالب في اجتزاء الآراء والروايات من بطون الكتب التي تقدح فيه، بشأن معركة الجمل التي دارت بين فريق علي من جهة وفريق عائشة وطلحة والزبير من جهة أخرى، في حين لم يوردوا ولا رواية واحدة مما دار عكس ما تناولوه، وما أكثرها، وأنا هنا أورد بعضها من باب الأمانة العلمية في النقل، وليس من باب الموقف تأييداً أو معارضة، قدحاً أو ذماً، ولست معنياً بالدفاع عن أحد، إلا من باب الإدلاء بدلوي بالرأي كوني باحثاً في التاريخ، ولكني سأرجح رواية منها نظراً لكثير من الشواهد والقرائن التاريخية المقوية لتلك الرواية.
كانت حادثة مقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه- أكبر وأشد عدوان على الأمة الإسلامية، وأكبر جريمة تاريخية بحق المسلمين، فتحت باب الفتن على مصاريعها التي أودت بالأمة في بداية الأمر، لولا نهوض معاوية -رضي الله عنه- بالأمر بعد ذلك.
يعد مقتل عثمان امتداداً لقتل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وسياق الجريمتين وأهدافهما وأجندتهما واحدة، ومن جهة واحدة كانت تدفع بالأحداث للتصاعد في محاولة شق وحدة المسلمين وتدمير الأمة، وهو كما نعلم دعم فارسي بيزنطي يهودي واحد، اتحدوا في هذا الأمر، ولا يمكن أبداً فصل القضيتين عن بعضهما.
هناك فارق بسيط ربما لم يدركه الكثير من الناس في القضيتين؛ أن مخطط الفتنة بعد مقتل عمر لم ينجح بسبب احتوائه السريع من قبل عمر -رضي الله عنه- نفسه، ومن قبل الخليفة الذي يليه وهو عثمان –رضي الله عنه-؛ فعمر لم يمت من ساعته وقد عرف قاتله في لحظتها، وأرشد من بعده في التعامل العام مع القضية؛ فقد كان قاتله فرد هو أبو لؤلؤة المجوسي، وإن كان مدفوعاً عبر الفرس، لم يصل حد التنظيم المسلح الذي كان في شأن مقتل عثمان -رضي الله عنه، والذي يبدو أن المخططين الدافعين لقتل عمر حينما فشلوا في مبتغاهم بتفجير الفتنة تلافوا خطأهم بحق عمر فصححوه في مقتل عثمان.
لقد أشار الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى تلك الفتنة، فهمها عمر دون غيره من الصحابة، وذلك حينما سأل الصحابة عن مفتتح الفتن، فقال له حذيفة بن اليمان: "يا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، لا بَأْسَ عَلَيْكَ منها، إنَّ بيْنَكَ وبيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا، قالَ: يُفْتَحُ البَابُ أَوْ يُكْسَرُ؟ قالَ: لَا، بَلْ يُكْسَرُ، قالَ: ذَاكَ أَحْرَى أَنْ لا يُغْلَقَ، قُلْنَا: عَلِمَ عُمَرُ البَابَ؟ قالَ: نَعَمْ، كما أنَّ دُونَ غَدٍ اللَّيْلَةَ، إنِّي حَدَّثْتُهُ حَدِيثًا ليسَ بالأغَالِيطِ، فَهِبْنَا أَنْ نَسْأَلَهُ، وأَمَرْنَا مَسْرُوقًا فَسَأَلَهُ فَقالَ: مَنِ البَابُ؟ قالَ: عُمَرُ".
فعلم عمر أنه هو ذلك الباب، وأنه سيقتل، فأدرك الفرس أهمية عمر بن الخطاب كونه يرسي مداميك دولة حقيقية بأركانها ومؤسساتها، وينظم الأنظمة فيها، وخافوا كثيراً من مستقبلها، فخططوا لقتله وبث نار الفتنة بعده، فأرسلوا أبا لؤلؤة المجوسي لتنفيذ مخططهم في قتل عمر - رضي الله عنه.
فقد كان الفرس ينظرون إلى عمر، كما قال علي بن أبي طالب، وهو يرده عن المسير بنفسه لقتال الفرس في نهاوند حين عزم مواجهتهم بنفسه: "إن الأعاجم إن ينظروا إليك غداً يقولون: هذا أصل العرب إن قطعتموه استرحتم، فيكون ذلك أشد لِكَلَبِهم [لتكالبهم] عليك، وطمعهم فيك"( نهج البلاغة: صـ354، ومثله في الطبري)، فرجع عمر عن الرحيل بنفسه لقتال الفرس في نهاوند وعين مكانه النعمان بن مقرن لقيادة الجيش والمعركة.
من هنا كان مفتتح الفتن؛ بقتل عمر، ولما لم ينجح المخطط وثبوا على عثمان بعد كسر باب عمر، ولكن مقتل عثمان كان جريمة بشعة بكل ما تحمله الكلمة من معنى لا تساويه بشاعة أية جريمة أخرى، ولا حتى مقتل الحسين التي يندبها الشيعة وينوحون عليها إلى اليوم؛ فهي لا تساوي شيئاً أمام جريمة قتل عثمان.
من هنا استعظم الصحابة جريمة قتل عثمان، ومن في المدينة بقوا مكتوفي الأيدي وفي وسط المعمعة، وقد كان قتلة عثمان جيشاً، صربوا الحراسة وفرضوا الإقامة الجبرية على كل الصحابة في بيوتهم في المدينة، وأخرجوا كثيراً منهم لمبايعة علي مكرهين. لكن هذا ليس دليلاً على أن علي وراء الفتنة، أو كان راضياً بها، فقد أجبر كما أجبر بقية الصحابة، على بعض الروايات.
هناك روايات متعددة في مبايعة الزبير وطلحة لعلي؛ منها روايات تقول بأنهما هما من قدماه للبيعة، وهناك روايات تقول إن الثوار أصحاب الفتنة أجبروا علياً على الولاية وأخذ البيعة لما سقط في أيديهم أن يتركوا المسلمين والمدينة بفراغ السلطة والبيعة، وعلي كان يشير للزبير أن يتولاها هو أو طلحة، بقوله لهما "أنا لكم وزير خير من أن أكون لكم أمير"!
وهناك رواية تقول عن الزبير: "بايعت واللج على عنقي"، ومن يكتب من الكُتّاب يختار هذه الرواية ويترك الروايات الأخرى، وكان الأولى بمن يتطرق لهذه المواضيع تقديم الروايات المختلفة، من باب الأمانة العلمية للإحاطة بالقضية، وأنا اخترت الروايتين المتضادتين من بين عدة روايات أخرى.