‘‘لا تنقضي عجائبه’’... نماذج مدهشة من البلاغة القرآنية

من عجائب القرآن الكريم التي لا تنقضي أنه كلما تأملت في آياته ومعانيها، وفي ألفاظه وإيقاعه وترابط سوره, تجد جوانب جديدة من بلاغته المدهشة التي حيرت العقول وسلبت الألباب، فمن وجوه الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم اختيار الله سبحانه وتعالى لألفاظ القرآن الكريم في أعلى وأرقى مستوى من التناسب، بحيث لو جئت بأي لفظ آخر غير اللفظ الوارد في الآية فلن يكون متناسبًا بذلك المستوى الرفيع الذي عبر به ذلك اللفظ وإن كان يحمل المعنى نفسه.
ومعروف لدى الباحثين أن اللغة العربية بحر زاخر بثراء وافر في الألفاظ والمفردات بحيث يوصل بعض الباحثين عدد كلمات اللغة العربية إلى ثلاثة عشر مليون كلمة، وهذا لم يحدث في أي لغة من اللغات في العالم!.
ومن هنا ندرك أن القرآن الكريم معجز بنظمه، فالبلاغة القرآنية هي: توخي معاني النحو في كلمات الآيات، واختيارها بدقة متناهية، فيطابق الكلام مقتضى الحال, بحيث لو وضعنا كلمة تحمل المعنى نفسه مكان الكلمة الواردة في الآية فلن تكون بتلك القوة المبهرة في التعبير عن المراد كما وردت في القرآن الكريم، ولن تكون مناسبة للمقام ولسياق الآية القرآنية بذلك المستوى الأعلى من التناسب الذي جاءت به من عند الله عز وجل، إضافة إلى التقديم والتأخير، فالتناسب والانتظام بين كلمات القرآن وآياته يأتي بمستوى ذري، كل لفظ مناسب للفظ الذي يليه من كل وجه من الوجوه بحيث يعبر عن المعنى بأبلغ تعبير وأوضح بيان.
تعريف ابن خلدون
ويورد شيخ أساتذة البلاغة القرآنية الدكتور محمد بن محمد أبو موسى (1) في تعريفة للبلاغة القرآنية ما ذكره العلامة عبد الرحمن بن خلدون حيث قال: ( أراد ابن خلدون أن يوضح لماذا كان القرآن من بين الكتب السماوية المنزلة معجزًا رغم أن بقية الكتب السماوية هي من كلامه سبحانه ولكنها غير معجزة، يجيب ابن خلدون عن هذا التساؤل: " لأن هذا يرجع إلى الفرق بين العربية الشريفة التي نزل بها القرآن وبين اللغة التي أنزل الله بها كتبه السابقة، وأن هذه العربية فيها من الكيفيات والخصوصيات ما لم يتوفر لغيرها، فالكلمة في العربية تفيد بمادتها وتفيد بأحوال هذه المادة، فإذا جاءت اسمًا أفادت معنًى زائدًا على أصل المادة، وإذا جاءت فعلًا أفادت معنًى زائدًا على أصل المادة، وإذا كان الفعل ماضيًا أفاد معنًى، وإذا كان مضارعًا أفاد معنًى، وإذا كانت معرفة بالألف واللام أفادت معنى، وإذا كانت معرفة بالإشارة أو الإضافة أفادت معنى، وإذا تقدمت أفادت, وإذا تأخرت أفادت، وإذا حرفت أفادت, وهكذا تقول في حروف العطف والفصل والقصر والشرط إلى آخر ما في هذه العربية من الذي سماه ابن خلدون " كيفيات وخصوصيات".
قال رحمه الله: " كل معنى لا بد أن تكتنفه أحوال تخصه، فيجب أن نعبر عن تلك الأحوال في تأدية المقصود لأنها صفاته، وتلك الأحوال في جميع الألسن أكثر ما يدل عليها بألفاظ تخصها بالوضع، وأما في اللسان العربي فيدل عليها بأحوال وكيفيات في تركيب الألفاظ وتأليفها من تقديم أو تأخير، أو حذف أو حركة إعراب، وقد يدل عليها بالحروف غير المستقلة تفاوت طبقات الكلام في اللسان العربي بحسب تفاوت الدلالة على تلك الكيفيات، فكان الكلام العربي لذلك أوجز وأقل ألفاظًا وعبارة من جميع الألسن." انتهى كلام ابن خلدون.
يعلق العلامة محمد أبو موسى على حديث ابن خلدون بقوله: " وهذا الكلام جيد جدًا، وفيه معنى جامع للبلاغة القرآنية، فابن خلدون جاء بعد زمن القمم الشامخة من علمائنا ونفذ في كلامهم نفوذًا عاليًا، واستخرج من طيب كلامهم أطيبه.
لأن هذا النص الذي لا يسد خلله نص آخر تستطيع أن ترجع بكل ما فيه إلى كلام من سبقوه، ولكنك لا تستطيع أن تجده بهذا التكامل وهذا الإيجاز إلا في كلام ابن خلدون، وتستطيع أن ترجع بكل ما في البلاغة إليه. (2)
*- نماذج مدهشة من بلاغة القرآن الكريم:
ويضرب الدكتور محمد العمري (3) للبلاغة القرآنية مثلًا بقوله تعالى في سورة يوسف: {وجاءوا أباهم عشاء يبكون(16)}. فيبكون هي حال، والحال هنا جملة فعلية، وقد قارن الحال هنا بالآية 86 في سورة طه: {فَرَجَعَ مُوسَىٰٓ إِلَىٰ قَوْمِهِۦ غَضْبَٰنَ أَسِفًا}، وفي قوله تعالى: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰٓ إِلَىٰ قَوْمِهِۦ غَضْبَٰنَ أَسِفًا} [الأعراف: 150].
كان من الخيارات المتاحة لغويًا أن يقول " باكين " بدلا من " يبكون " لكنه عبر عنها بالفعل " يبكون" وفي الموضع الآخر " غضبان آسفا" والحال هنا جملة اسمية فما الفرق؟
لأن حالة موسى عليه السلام نفسية، فالغضب والأسف نفسي فعبر عنه بالاسم، لكن إخوة يوسف عليه السلام جاؤوا يبكون ليس بكاء حقيقيًا, وإنما افتعالًا فكان الحال المعبر عنه جملة فعلية، فهو فعل مفتعل غير ملازم لهم كما في حالة نبي الله موسى عليه السلام حيث لازمه الغضب والأسف وامتلأت بهما نفسه، فالغضب والأسف حالة نفسية ثابتة فعبر عنها بالاسم، وهو الحال الذي هو في النحو جملة اسمية، أما إذا كانت الحالة تؤدى بالجوارح وغير متصلة وغير ثابتة ومتقلبة مفتعلة عبر المولى عز وجل عنها بالفعل " يبكون " وهو تعبير يناسب حالهم بأدق وصف، وبأرفع مستوى من البيان.(4)
وقد اجتمع (الحال بجملة اسمية وبجملة فعلية) في وضع نبي الله موسى عليه السلام في قوله تعالى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ۖ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 21].
"خائفًا" بالاسم لأن الخوف مستمر ونفسي، لكن " يترقب " هي حالة فعلية تتم بالجوارح, ينظر هنا وهناك ويتلفت في كل الاتجاهات، يرقب الطريق والناس، وهل هناك من يتبعه أو يراقبه أو يسعى للقبض عليه؟
فجاء التعبير بجملة فعلية متناسبة مع الحركة التي كانت صادرة عنه عليه السلام، فالترقب حالة تذهب وتأتي، وهي غير ثابتة كالخوف الذي لم ينته إلا بعد أن وصل إلى مدين واستضافه شعيب، وقص عليه القصص فقال الله تعالى على لسانه: {فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ ۖ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 25].
ويروي الأصمعي: كنت في أحد أحياء البصرة فوجدت بنتًا صغيرة، قد بلغت خمس سنين أو ستًا، وهي تقول: أستغفر الله لذنبي كلَّه، فقال:
ــ يا فتاة مِمَّ تستغفرين ولم يجر عليك قلم؟ فقالت:
أستغفر الله لذنبي كلَّه
قتلتُ إنسانًا بغير حلِه
مثلُ غزالٍ ناعم في دَلِه
انتصف الليل ولم أصُلِه
وهي بهذا تعارض أبيات الشاعر عبد السلام رغبان الكلبي المعروف بـ ديك الجن، حيث قال:
أَسْتَغْفِرُ اللّهَ لِذَنبي كُلِّه
قَتَلْتُ إِنْسانًا بِغَيْرِ حِلِّهْ
وانْصَرَمَ اللّيلُ ولَمْ أُصَلِّهْ
والسُّكْرُ مفتاحٌ لهذا كُلِّهْ
فقال لها الأصمعي: ما أفصحكِ.!
قالت: شيخ فانِ، وتخالط الغواني.!
قال: إنما أتعجب من فصاحتكِ.
فقالت: هل ترك القرآن لأحد فصاحة؟
فقال: نبهيني على أية فصيحة منه.
فقالت: اقرأ آية القصص: {وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰٓ أُمِّ مُوسَىٰٓ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى ٱلْيَمِّ وَلَا تَخَافِى وَلَا تَحْزَنِىٓ ۖ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7].
فقد جمعت الآية أمرين وهما: أرضعيه وألقيه، ونهيين وهما: لا تخافي ولا تحزني، وخبرين تضمنا بشارتين وهما: إنا رادُّوه إليكِ وجاعلوه من المرسلين. انتهى كلامها.
وانظر إلى الدقة المتناهية والرقي العجيب في قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14].
يقول الدكتور فاضل السامرائي: (لم يقل: زين للرجال حب الشهوات من النساء والبنين...إلخ، لأن النساء أيضًا يحببن البنين والذهب والفضة فجاءت الآية بـ "زين للناس"، لأن ما ذكر ليس خاصًا بالرجال بل بالجنسين، والناس يشمل الرجال والنساء، وحين ذكر البنين في الآية ألمح إلى رغبة النساء في ذلك إلماحًا وليس تصريحًا، فلم يشأ المولى عز وجل أن يخدش حياء المرأة ويقول: " زين للنساء حب الشهوات من الرجال" فأشار إلى البنين ولأن البنين يأتون من معاشرة الرجال ففي الآية إشارة إلى النساء بالتضمين والإلماح, لا بالتصريح مراعاة لمشاعر النساء ولحيائهن. فتأمل. (5)
وتأمل في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى: 28].
لم يقل ينزل المطر وإنما ينزل " الغيث " لأن الغيث يعني المطر الذي يأتي وقت الحاجة، فيأتي بعد الجفاف، وقد سمي غيثا بالمصدر لأن به غيث الناس المضطرين المحتاجين، وتقدم عند قوله تعالى: {فيه يغاث الناس} في سورة يوسف.
وقرن هذا المطر برحمته لأن فيه إغاثة للناس ورزقًا عظيمًا بلا ضرر, فالغيث مع الرحمة لا ضرر فيه بل رزق صافي.
وفي القرآن الكريم قال تعالى: {وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمُ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ وَتَثۡبِيتٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ كَمَثَلِ جَنَّةِۭ بِرَبۡوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٞ فَـَٔاتَتۡ أُكُلَهَا ضِعۡفَيۡنِ فَإِن لَّمۡ يُصِبۡهَا وَابِلٞ فَطَلّٞۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 265].
وانظر إلى الدقة المتناهية في قَوْلُهُ تعالى: {فَإنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ} أيْ فَإنْ لَمْ يُصِبْها مَطَرٌ غَزِيرٌ عظيم " وابل " كَفاها مَطَرٌ قَلِيلٌ وهو " الطل " أي: الندى واللين من المطر، وفسر بعضهم الطل بالطش وهو أول المطر.
{فَآتَتْ أُكُلَها ضِّعْفَيْنِ}. والمعنى حتى وإن لم يصبها المطر الشديد العظيم وأصابها المطر القليل فقد بارك الله به حتى ضاعف ثمرتها، كما يضاعف ثمرة من ينفق في سبيل الله بالكثير أو القليل. فتأمل.
ما سبق مجرد رشفات من بحر، وقطرات من محيط، فما أحوجنا اليوم إلى العودة إلى القرآن وتأمل معانيه وتدبر آياته، وإعادة الاعتبار إليه كدستور ومنهاج لنا، وتأمل آيات الكتاب العزيز وإخراج بعض الدرر والجواهر لأمة اقرأ التي لم تَعُدْ تقرأ إلا قليلًا.
* - نقلا عن مجلة " جرهم " العدد الثالث.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
1ــ الأستاذ محمد بن محمد أبو موسى عالم لغوي وأستاذ البلاغة في جامعة الأزهر, ولد في 30 يونيو 1937م بمركز دسوق في محافظة كفر الشيخ بمصر، من كبار علماء الأزهر، درس علم البلاغة في العديد من الجامعات الإسلامية وله دروس أسبوعية في الأزهر والعديد من المؤلفات القيمة. انظر تعريفه بمنصة حفظ التراث الإسلامي على هذا الرابط: https://www.islamic-heritage.com/sheikh/235
2ـ انظر للتوسع حديث العلامة أبو موسى في محاضرات " مدخل البلاغة في تفسير القرآن " والتي نظمها مركز تفسير للدراسات القرآنية على هذا الرابط:
http://https://www.youtube.com/watch?v=rjPvtpj1aUk&list=PLtZ9HC4V3ml5LdbXOc65J02SP63YU-GkP
3ـ محمد بن علي العمري أستاذ اللغة العربية بجامعة الملك خالد في أبها، وأستاذ اللغة العربية بعدد من المؤسسات السعودية وله جهود علمية ودورات عديدة في اللغة العربية.
4ـ للتوسع شاهد لقا الدكتور محمد العمري في: بودكاست وضاح في إذاعة شيم في اليوتيوب بعنوان: كيف يمكن للغة العربية أن تصبح عالمية؟ على هذا الرابط:
https://www.youtube.com/watch?v=drVLJdonDc0&t=556s
5ـ انظر للتوسع حديث العلامة العراقي المعروف الدكتور فاضل السامرائي حول تفسيره البياني لهذه الآية على هذا الرابط:https://www.youtube.com/watch?v=drVLJdonDc0&t=556s