العملية الأمريكية في اليمن: دوافع التصعيد وقواعد الاشتباك

في 11 من مارس 2025، أعلنت جماعة الحوثي في اليمن عن استئناف عملياتها العسكرية في البحر الأحمر ومضيق باب المندب، وذلك بعد انقضاء مهلة الأيام الأربعة التي منحها زعيم الجماعة عبدالملك الحوثي إلى الوسطاء في ملف وقف إطلاق النار في قطاع غزة، لإقناع تل ابيب بإنهاء الحصار الإسرائيلي على القطاع. وقد قوبلت هذه الخطوة بترحيب من جانب القيادة السياسية لحركة حماس.
ولم يباشر الحوثيون عملياتهم فور الإعلان، لكن الجماعة بدأت باتخاذ التدابير والإجراءات لنقل الصواريخ والمسيرات إلى منصات إطلاقها ورفع الجاهزية الهجومية لقواتهم البحرية والجوية. وفي 14 مارس الجاري، كشفت مصادر محلية عن سماع دوي انفجارات في منطقة البحر الأحمر وهو ما لم تؤكده أو تنفيه الجماعة المسلحة.
ثم أعلنت الولايات المتحدة في 15 مارس الجاري، عن تنفيذ حملة عسكرية واسعة ضد مناطق سيطرة الحوثيين في شمال وغرب اليمن. وبحسب المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون)، فإن هدف هذه الحملة هو "استعادة حرية الملاحة وترسيخ الردع الأمريكي"، وأوضح وزير الدفاع الأمريكي بيت هيغسيث أن هذه العمليات سوف تستمر إلى حين توقف عمليات الحوثيين.
دوافع التصعيد الحوثي
بالرغم من تراجع النزعة التصعيدية لدى طهران وباقي فصائل محورها الإقليمي في العراق ولبنان، فإن الحوثيين كانوا المبادرين إلى التجاوب مع تطورات العملية التفاوضية بين حماس وتل أبيب. وإلى جانب قرار نتنياهو بمحاصرة غزة، فإن ثمة جملة من العوامل التي جعلت الحوثيين متحفزين لاستئناف نوبات التصعيد منذ فبراير الماضي، وأهمها:
1- تصنيف الحوثيين كجماعة إرهابية من قبل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في نهاية يناير الماضي؛ ما يعني تجفيف مصادر تمويلهم وإحكام العزلة السياسية عليهم. وقد مثّل هذا القرار تهديداً وجودياً بالنسبة للحوثيين يصعب عليهم التكيف معه؛ فهم ليسوا دولة قوية على غرار إيران بحيث يحتملوا العقوبات لمدة زمنية طويلة ويتحايلوا عليها بمساعدة حلفاء دوليين مثل روسيا والصين. كما أن الحوثيين لم يعودوا جماعة ثورية زاهدة عن السلطة وقادرة على التعايش في ظل موارد محدودة، ومستعدة للقطيعة التامة مع النظام الدولي مالياً وسياسياً على غرار القاعدة وداعش.
لذا، فقد كان متوقعاً أن يلجأ الحوثيون إلى تصعيد مضاد إما داخل اليمن أو من خلال العمليات العابرة للحدود بهدف الضغط على واشنطن وحلفائها للعدول عن القرار. وفي فبراير الفائت، حاول الحوثيون الاحتكاك بالقوات الأمريكية من خلال إطلاق صواريخ باليستية على طائرتين أمريكيتين، وكانت استجابة البنتاجون حينها أنه يدرس الرد. ثم جاءت أحداث الحصار على غزة لتمثل حجة جديدة لاستئناف التصعيد، والمراهنة على فتح قنوات تفاوض مباشرة مع واشنطن قد تتضمن لاحقاً وقف العمليات مقابل رفع التصنيف.
2- التأكيد على فاعلية المحور الإيراني، وبقاء مبدأ وحدة الساحات؛ وقد تزامن هذا القرار الحوثي بـ"فتح جبهة الإسناد اليمينة"؛ مع بلوغ التهديدات الكلامية ذروتها من قبل واشنطن وتل أبيب وتلويحهما بضربة وشيكة لإيران. وفي هذا الإطار، فإن تنشيط الجبهة اليمنية جاء ليمثل أبلغ رد على حيوية نفوذ طهران الإقليمي رغم ما منيت به من نكسات مؤخراً ورغم استمرار سياسة الضغط الأقصى من قبل إدارة ترامب.
3- نزعة الحوثيين المتجذرة إلى التصعيد؛ وذلك لتأكيد دورهم الجديد كفاعل "إقليمي/دون دولتي"؛ ويمثل هذا الدور العابر للحدود بالنسبة للحوثيين أهم بوليصة تأمين جيوسياسي تسمح لهم بتصدر موقع الريادة داخل "محور الممانعة" كـ"وريث شرعي" لحزب الله اللبناني، كما أن هذا الدور هو الضامن لكبح الرياض عن الاستدارة مع واشنطن ضمن سياسة الضغط الأقصى عليهم والتماهي مع قرار عزلهم ومعاقبتهم، وأخيراً فإن هذا الدور يمثل ضمانة للإبقاء على الهيمنة السياسية للحوثي في المعادلة اليمنية وتمكينه مستقبلاً من رسم ملامح التسوية السياسية التي تنهي الصراع.
سياق الاستجابة الأمريكية المغايرة
لم يمتلك الرئيس ترامب أي مقاربة خاصة تجاه الملف اليمني وكيفية إدارة الصراع فيه. وقد عبر عن ذلك صراحة وزير الدفاع الأمريكي بيت هيغسيث عندما قال: "لا شأن لنا بالصراع الأهلي في اليمن". وذلك على العكس من سلفه الرئيس السابق جو بايدن الذي كانت إدارته تمتلك رؤية أكثر شمولية بخصوص اليمن سواء فيما يتعلق بإدارة الصراع أو ما يتصل بعملية بناء السلام. وهنا، تكمن المفارقة، حيث كانت سياسة بايدن تمتلك الرؤية وتفتقر إلى الفاعلية، بينما العكس صحيح اليوم مع الإدارة الأمريكية الجديدة.
لقد استطاع ترامب أن يحدد بسهولة طبيعة موقفه من جماعة الحوثي، وذلك انطلاقاً من نهجه الثابت في سياسة "الضغط الأقصى" ضد إيران. لذا، فقد قام الرئيس الأمريكي بتصنيف الحوثيين كجماعة إرهابية بعد يومين فقط من دخوله إلى البيت الأبيض، وذلك على الرغم من أن الجماعة كانت قد أوقفت هجماتها على الملاحة آنذاك.
وقد توعد ترامب الحوثيين باستجابة عسكرية مغايرة في حال عاودوا التصعيد، وعندما حاول الحوثيون اختبار مصداقيته لم يتردد في إطلاق عملية عسكرية مركزة وطويلة نسبياً في اليمن. وقد استفاد ترامب في بناء اندفاعته العسكرية من عدة عوامل استراتجية لم تكن متوفرة لدى سلفه، وأهمها:
1- انتفاء أي مصلحة لواشنطن من ضبط النفس مع الحوثي؛ فخلال حقبة بايدن استغلت واشنطن سلوك الحوثيين كي تعزز انتشارها العسكري في منطقة البحر الأحمر وباب المندب وتمنحه بعداً شرعياً من خلال قرار مجلس الأمن رقم 2722. كما أن بايدن استفاد سياسياً من تعطيل الملاحة لممارسة ضغوط ضمنية على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. وفي مارس 2024، كانت مقاربة وزير الخارجية الأمريكي السابق انتوني بلينكن لإعادة الاستقرار إلى المنقطة تنص على وقف الحرب في غزة، ووقف العمليات في البحر الأحمر وكامل جبهات الإسناد، والمضي قدماً في اتفاق خارطة الطريق في اليمن. وكان هذا المقترح وليد تنسيق ثلاثي أمريكي-سعودي-إيراني، ولكن نتنياهو نجح في نسف هذا المسار من خلال استهداف مبنى السفارة الإيرانية في دمشق في أول أبريل 2024.
2- تبدل الموقف العربي والدولي تجاه نشاط الحوثيين، فبينما مثّلت عمليات الحوثيين مصلحة سياسية تكتيكية تعزز السردية الضاغطة على إسرائيل، والتي تقول أن استعادة الاستقرار الإقليمي مرتبط بغزة، فإن استمرار عمليات الحوثيين كشف في المحصلة أن مضاره الاقتصادية والأمنية أكبر بكثير من فوائده السياسية. ولذا سوف نجد أن دولاً مثل السعودية، والتي عبرت عن قلقها في يناير 2024 ودعت واشنطن إلى ضبط النفس باليمن، قد التزمت اليوم الحياد هذه المرة، ودولاً مثل العراق وعمان التي أدانت صراحة العمليات الأمريكية في 2024 اكتفت هذا العام بالتعبير عن قلقها.
أما دولة كبرى مثل روسيا، فقد دعت مجلس الأمن إلى اجتماع عاجل في يناير 2024 رداً على العمليات الأمريكية البريطانية في اليمن، والتي صفتها بأنها عدوان سافر ومدان. لكن موسكو في 2025 كانت على تنسيق مباشر مع واشنطن من خلال اتصال هاتفي بين وزيرى الخارجية ماركو روبيو وسيرجي لافروف.
3- تراجع مخاطر الاستنزاف المكلف؛ فخلال العام الماضي كانت الأصول الأمريكية تواجه عمليات عدائية نشطة من اليمن وسوريا والعراق، وكان التورط بعملية عسكرية واسعة يعني تحويل المجهود الحربي الأمريكي بعيداً عن أوكرانيا. أما اليوم، فإن ترامب يدخل مواجهته مع الحوثيين وهو متخفف من أعباء أوكرانيا ومطمئن إلى تراجع نفوذ إيران.
4- رغبة ترامب الدائمة في إثبات نفسه كرئيس أقوى من بايدن، وهو ما ورد صراحة في بيان الرئيس الأمريكي لحظة الإعلان عن العمليات. كما أن تنامي التحديات الداخلية اقتصادياً قد يكون حافزاً إضافياً دفع الرئيس إلى تعزيز شعبيته في موضع آخر.
قواعد الاشتباك الجديدة
يتلخص الفرق الجوهري بين بايدن وترامب في الانتقال من أسلوب "الاحتواء الدفاعي" والذي كان يركز على صد الهجمات الحوثية وأحياناً القيام بـ"عمليات دفاعية هجومية" لاستهداف تحركات الصواريخ والمسيرات ومنصات الإطلاق، إلى "الردع الهجومي" والذي يهدف إلى تكثيف حدة الضربات الجوية وتوسيع نطاقها وتوجيهها بصورة استباقية.
والهدف هو ردع الحوثيين من خلال معاقبتهم على قرار التصعيد، وجعل كلفة العمليات العابرة للحدود أكبر من عوائدها. ويمكن تحقيق هذا الهدف من خلال مسارين: الأول، توقف العمليات في غزة وبالتالي توقف عمليات الحوثي، وهنا يكون الردع منقوصاً ويتكرر سيناريو بايدن 2024.
والثاني، إجبار الحوثي على فصل الجبهات ووقف العمليات العابرة للحدود مقابل وقف الحملة الأمريكية. وهنا، يكون الردع كاملاً مثلما حصل مع حزب الله في لبنان، وسيكون هامش المناورة الوحيد أمام الحوثي هو أن يقايض موضوع غزة وتهديد الملاحة من خلال وقف الغارات وكذلك رفع العقوبات وقرار التصنيف.
وكلمة السر في نجاح نهج ترامب الجديد هى "الحفاظ على الزخم الهجومي وثراء بنك الأهداف". وقد كان إعلان واشنطن عن استمرار العملية لأيام أو أسابيع رسالة واضحة بأن البنتاجون مستعد للحفاظ على الزخم الهجومي، وبالتالي حرمان الحوثي من فرصة تعويض الخسائر والتكيف بسهولة مع الوضع الجديد.
وفي المقابل، فإن خارطة الغارات الأمريكية خلال الأيام الماضية قدمت نبذة أوّلية عن بنك الأهداف الأمريكي، وهو بنك أهداف قابل للتوسع كماً وكيفاً بناءً على سلوك الحوثيين المضاد. ويمكن تصنيف الأهداف الأمريكية حتى الآن في ثلاثة مستويات:
1- البنية التحتية العسكرية؛ حيث تم استهداف مخازن للسلاح، ومواقع للقيادة والسيطرة، ومنظومة اتصالات عسكرية، ولوجستيات عسكرية ومصانع حربية.
2- البنية التحتية المدنية، وقد بعثت واشنطن برسائل حادة من خلال استهدافها لشركة النفط في صنعاء، ومحطة كهرباء في صعدة، كما أن الحديث الأمريكي عن استخدام عدد من المصانع ومخازن الأمم المتحدة وميناء الحديدة لأغراض عسكرية –وهو حديث دقيق بالمناسبة- قد يكون مقدمة لعمل أوسع.
3- تصفية القيادات؛ وذلك من خلال عمليتين رمزيتين يمكن اعتبارهما مجرد رسالة تحذير، من خلال قصف مراكز الجماعة السياسية والإعلامية في حي الجراف شمال صنعاء، وأيضاً قصف منازل قيادات للجماعة في صعدة.
وحتى الآن، يكتفي الحوثيون بالرد من خلال عمليات رمزية؛ تستهدف الأصول العسكرية الأمريكية في البحر الأحمر، وكذلك استهداف مواقع عسكرية في العمق الإسرائيلي. لكن هذه العمليات لا تُحدِث أثراً استراتيجياً بل ولا حتى تكتيكياً.
وفي حال انخرط الحوثيون والأمريكيون في دوامة تصاعدية من العمليات المتبادلة، فإن لدى واشنطن، إلى جانب بنك الأهداف السابق، ورقتين هامتين للضغط:
الأولى، استهداف الأصول الإيرانية في اليمن من قيادات وسفن في البحر ومراكز قيادة وسيطرة في البر. والثانية، قيادة مناورة برية عبر توفير دعم تسليحي وغطاء جوي للقوات العسكرية التابعة لمجلس القيادة الرئاسي اليمني وتحديداً في منطقة الحديدة والساحل الغربي. الورقة الأولى مرهونة بطبيعة العلاقة مع طهران، أما الورقة الثانية فمرتبطة بمدى تنسيق واشنطن مع السعودية والإمارات.
أما الحوثيين؛ فإن لديهم على الأرجح ثلاث أوراق قد يلجأوا إليها لبناء معادلة ردع أمام النهج الهجومي لترامب:
الأولى، استهداف السفن التجارية دون تمييز وحظر الوصول بشكل كلي إلى باب المندب. والثانية، استهداف حلفاء واشنطن في الخليج. والثالثة، القيام بعمليات داخلية تنذر بتغير جذري في معادلة الصراع المحلي يهدد التوازنات الاستراتيجية في اليمن والمنطقة.
لكن هذه الأوراق الثلاث تمثل سلاحاً ذا حدين؛ فمن جهة قد تدفع المجتمع الدولي والسعودية والإمارات وقيادة الشرعية اليمنية إلى ثنى واشنطن عن سلوكها العدائي، ومن جهة أخرى قد تكون عاملاً حاسماً في دفعهم إلى الانخراط في مجهود قتالي مشترك لإنهاء التهديد الحوثي.
*مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية