صدقة بني هاشم بين التحريم والنهب (1-2)

لعل غالبية الناس -قديماً وحديثاً- ممن تحدث في شأن عدم جواز الصدقة على بني هاشم ذهبوا إلى مذهب عدم إعطائهم من أموال الصدقات لأنها طهارة غيرهم، استناداً إلى حديث "إنَّ هذه الصَّدَقةَ، إنَّما هي أوساخُ النَّاسِ، وإنَّها لا تَحِلُّ لمُحمَّدٍ ولا لآلِ مُحمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، والتعويض عنها بالخمس.
وللتوضيح فإن سياق هذا الحديث لا يتسق مع حرص الإسلام على التعاون والتكافل في الهبات والعطايا والصدقات، وفي نفس الوقت ينفر منها آخذيها ومستحقيها على اعتبار أنها أوساخ؛ فالإنسان السوي لا يتناول الأوساخ، والشارع الحكيم لا يرضى ولا يشرِّع الأوساخ للإنسان، سواء كان مسلماً أو غير مسلم، ولا يعطي إلا طيباً، كما في بقية أبواب الشرائع الإسلامية.
وبالنظر إلى سياق الحديث، فما نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- أقاربه عن ذلك إلا خشية من القَيلة فيه والطعن في نزاهته وعدالته، وحتى لا يكون مدخلاً للمشككين الخائضين في أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- ورسالته أنه تقاضى عليها أجراً، أو استأثر بها من دون الآخرين؛ فقد كان المشركون يتربصون به كل المداخل ولا يفترون عن البحث لإيجاد أية ثغرة تطعن فيه، وقد استنفروا كافة إمكانياتهم للبحث في ثغرة ينفذون منها لمحاربة النبي ودعوته وتصيد عثراته أو شبهات تقف ضد رسالته، وحتى لا يمثل مدخلاً لمن وما سيكون بعده، أو أن ما جاء به من الرسالة إنما هو بمقابل مالي يتكسب منه ويولي عليه أقاربه، وهو من حرص وأساليب القائد ونزاهته عند مقوديه، حتى يلتف الجميع ويتآزر ويتعاضد خلف النبي -صلى الله عليه وسلم- دون تشكيك ولا تثريب، لبناء مجتمع صلب بعيداً عن الاختراق في اللهث وراء مطامع أخرى قد يدخل منها الأعداء وينفذون إلى الصف الإسلامي لتفتيته، فكما حصن جانبه الأخلاقي والاجتماعي بتلك التربية الصارمة لنسائه وبيته كذلك حصن جانبه المالي الاقتصادي أيضاً.
ولذلك حرص كل الحرص على أن لا يكون هناك شيء من قريب ولا من بعيد يمكن أن يكون مثلبة أو طعناً في صدقه وعدالته، ونزّه عدالته وسيرته ونبوته من كل ما يمكن أن يلحق بها من أذى، أو يمكن أن يكون هفوة أو مدخلاً من مداخل الشيطان والطعن. فهو كما حصن نفسه وأكرمها من الأخذ أجراً من أحد، وسّع هذا التحصين ليشمل أقاربه حتى لا يؤتى من قِبَلهم، ويتم اختراق الدائرة الضيقة منه، ليبني نفسه ودولته على أرضية صلبة دون شبهات، وهي كذلك دروس للقادة بناة الدول.
وحتى لا يخالف بذلك قول الله –عز وجل- {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ}الأنعام90، وقوله تعالى: {قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}الشورى23، كما هو حال بقية الأنبياء والمرسلين الذين لا يأخذون على تبليغ رسالاتهم أجراً من الناس ولا مقابل.
والتفافاً على نصوص الآيات فقد قاموا بتأويل الآية {قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}الشورى23، على أنه -صلى الله عليه وسلم-، وحاشاه ذلك، أن يأخذ أجره على رسالته مقابل مودة قرابته، وهو تأويل عجيب غريب، الغرض منه الحصول على مكانة عامة بين المسلمين والتسلط عليهم والامتياز عنهم، وهو ما تنفيه بقية آيات القرآن الكريم في كل المواضع.
وتمام الحديث كما جاء عند مسلم، حدثني عبدالله بن محمد بن أسماء الضبعي، حدثنا جويرية عن مالك، عن الزهري، أن عبدالله بن عبدالله بن نوفل بن الحارث بن عبدالمطلب حدثه، أن عبدالمطلب بن ربيعة بن الحارث حدثه قال: اجتمع ربيعة بن الحارث والعباس بن عبدالمطلب، فقالا: والله لو بعثنا هذين الغلامين (قالا لي وللفضل بن عباس) إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكلماه، فأمَّرهما على هذه الصدقات، فأديا ما يؤدي الناس، وأصابا مما يصيب الناس!
قال فبينما هما في ذلك جاء علي بن أبي طالب فوقف عليهما، فذكرا له ذلك. فقال علي بن أبي طالب: لا تفعلا، فو الله ما هو بفاعل. فانتحاه ربيعة بن الحارث فقال: والله ما تصنع هذا إلا نفاسة منك علينا. فوالله لقد نلت صهر رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فما نفسناه عليك. قال علي: أرسلوهما. فانطلقا، واضطجع علي. قال: فلما صلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- الظهر سبقناه إلى الحجرة، فقمنا عندها، حتى إذا جاء فأخذ بآذاننا، ثم قال: "أخرجا ما تصرران"، ثم دخل ودخلنا عليه، وهو يومئذ عند زينب بنت جحش. قال: فتواكلنا الكلام، ثم تكلم أحدنا، قال: يا رسول الله، أنت أبر الناس وأوصل الناس، وقد بلغنا النكاح، فجئنا لتؤمرنا على بعض هذه الصدقات فنؤدي إليك كما يؤدي الناس، ونصيب كما يصيبون. قال: فسكت طويلاً حتى أردنا أن نكلمه. قال: وجعلت زينب تلمع علينا من وراء الحجاب أن لا تكلماه. قال: ثم قال [صلى الله عليه وسلم]: إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد؛ إنما هي أوساخ الناس. أدعوا لي محمية (وكان على الخمس) ونوفل بن الحارث بن عبدالمطلب". قال: فجاءاه، فقال لمحمية: "أنكح هذا الغلام ابنتك" (للفضل بن عباس) فأنكحه. وقال لنوفل بن الحارث: "أنكح هذا الغلام ابنتك" (لي) فأنكحني. وقال لمحمية: "أصدق عنهما من الخمس كذا وكذا". قال الزهري: ولم يسمه لي.
وهذا توضيح آخر لماذا لا تجوز الصدقة لأقارب النبي الأدنون وليس عامتهم، خاصة في حياته، ولم يستعملهم على الصدقة أيضاً، حتى لا تدخل أدنى شبهة مالية مقابل دعوته، أما بعد وفاته وقد تولى أمر المسلمين غيرهم فإن الفقير منهم تجوز عليه الصدقة كعامة الناس؛ لأن المحذور رفع عنهم بوفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- وهذا قد وضحه الخليفتان أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- سلوكاً عملياً ونهجاً متبعاً معهم.
ومن خلال مطالب الشابين من بني عمومته فقد عرف مقصدهما ومرادهما، وهو أن يحصلا على جزء من هذه الصدقة والأموال لإعانتهم على الزواج، ولذلك سارع النبي إلى آخرين وطالبهما بتزويجهما على الفور من أموال خمس النبي وخمس الله الذي جعله لبعض حاجته وخلة المسلمين.
أما معنى الآية فهو لا أسألكم شيئاً مقابل تبليغي الدعوة إليكم إلا نظراً للقرابة التي بيني وبينكم وليس لشيء آخر، كما هي حال دعوات الأنبياء السابقين في عدم الحصول على أجر مقابل هذا البلاغ إلا إنذار الأقربين والحرص على تجنيبهم عذاب الله.
ويذهب الهاشميون، سواء السنة أو الشيعة، ومن سار على نهجهم من الفقهاء أن الصدقة لا تحل لهم، ولذلك عوضوا بخمس ذوي القربى، وهذا القول يفنده التنفيذ العملي لأبي بكر بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
فإذا كانت الصدقة محرمة على بني هاشم، فكيف جاءت فاطمة -رضي الله عنها- تسأل أبا بكر مال أبيها من الصدقة؟! هل كانت لا تعلم أن هذه الأموال صدقة؟ أم ظنت أنها وارثة أباها في ماله؟! وكيف دفع عمر -رضي الله عنه- صدقته بالمدينة إلى علي وعباس؟!
وقد رد عليها النبي –صلى الله عليه وسلم- بما قاله النبي في حياته (لا نورث.. ما تركنا صدقة)، ولم يقل لها الصدقة محرمة عليك أو على بني هاشم!
دفع عمر صدقة النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة لعلي والعباس لإدارتها وولايتها، كما وليها النبي وأبو بكر وعمر من بعده، وهذا واضح في حديث خصام علي والعباس إلى عمر، وقد سردناه بالتفصيل.
ففي حديث عائشة -رضي الله عنها-، حدثنا عبدالعزيز بن عبدالله، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة أم المؤمنين –رضي الله عنها- أخبرته "أن فاطمة –عليها السلام- ابنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سألت أبا بكر الصديق بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقسم لها ميراثها مما ترك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مما أفاء الله عليه".
"فقال لها أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: لا نورث، ما تركنا صدقة، فغضبت فاطمة بنت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فهجرت أبا بكر، فلم تزل مهاجرته حتى توفيت، وعاشت بعد رسول الله –صل الله عليه وسلم- ستة أشهر. قالت: وكانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها مما ترك رسول الله –صلى الله عليه وسلم- من خيبر وفدك، وصدقته بالمدينة، فأبى أبو بكر عليها ذلك وقال: لست تاركاً شيئاً كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعمل به إلا عملت به، فإني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ. فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى علي وعباس. وأما خيبر وفدك فأمسكهما عمر، وقال: هما صدقة رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه، وأمرهما إلى ولي الأمر، قال: فهما على ذلك إلى اليوم".
فأقنعها أبو بكر أن الأنبياء لا يورثون، وأحسن إليها وتلطف بالقول وألزمها الحجة، فقال لها: "والله ما خلق الله خلقاً أحب إلي من أبيك ولا خلقاً بعد أبيك أحب إلي منك، ولأن تحتاج عائشة أيسر علي من أن تحتاجي. والذي بعث أباك بالحق: مالك هذه الأموال قط"، وهذا بحضرة الصحابة رضوان الله عليهم.
ونجد أثراً من محمد بن الحنفية يتحدث أن علياً –رضي الله عنه- لم يغلب عثمان بن عفان على صدقة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ولو كان متمسكاً بها لتمسك بها في ذلك اليوم. وكذلك فإن علياً بعد قضاء عمر أدرك مصرف هذه الأموال والصدقة ولم يطلبها لبني هاشم بعد ذلك، وقال لعثمان حينما كان خليفة للمسلمين قبل مقتله أن يأمر سعاته يعملوا بها.
قال البخاري: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا سفيان، عن محمد بن سوقة، عن منذر، عن ابن الحنفية قال: "لو كان علي –رضي الله عنه- ذاكراً عثمانَ –رضي الله عنه- ذِكْرَه يوم جاءه ناس فشكوا سعاةَ عثمان، فقال لي علي: إذهب إلى عثمان فأخبره أنها صدقة رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، فمر سعاتك يعملوا بها. فأتيته بها فقال: أغْنِها عنا. فأتيت بها علياً فأخبرته فقال: ضعها حيث أخذتها".
والقول بأن الخمس تعويض لهم عن الصدقة هو نوع من أنواع التعالي عن أخذ القليل حتى لا يكونوا منكسرين أمام غيرهم، بينما يذهبون لأخذ ما هو أكثر عبر الخمس واعتبروه فرضاً حتى يؤخذ من باب الفرض لا الانكسار!
يدخل فقراء بني هاشم ومساكينهم فيما دخل فيه عامة فقراء ومساكين المسلمين عموماً؛ فإذا حرموا هذه الصدقة في زمن النبي –صلى الله عليه وسلم- للأسباب التي ذكرناها سابقاً فإنهم دخلوا بعد ذلك، كما أدخلهم بقية الخلفاء الراشدين، وإن كانوا أغنياء فعليهم إخراج صدقتهم لغيرهم، كما فعل النبي –صلى الله عليه وسلم- مع عمه العباس في حال الغنى أخذ منه، وفي حال الفقر أعطاه.
فقد جاء في البخاري: حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، حدثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: "أمر رسول –صلى الله عليه وسلم- بالصدقة، فقيل: منع ابن جميل وخالد بن الوليد وعباس بن عبدالمطلب، فقال النبي –صلى الله عليه وسلم: ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيراً فأغناه الله ورسوله، وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً؛ فقد احتبس أدرعه وأعتده في سبيل الله، وأما العباس بن عبدالمطلب فعم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فهي عليه صدقة ومثلها معها".
وهو كذلك عند مسلم، وفي شرح الحديث عند مسلم أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قد أخذ من العباس صدقة عامين مقدماً فهي عند رسول الله وهو أن يقضيها عنه.
.... يتبع