الثلاثاء 18 مارس 2025 04:57 مـ 19 رمضان 1446 هـ
االمشهد اليمني
Embedded Image
×

معركة الجمل بين المغالطة والإنصاف (2-3)

الثلاثاء 18 مارس 2025 12:59 مـ 19 رمضان 1446 هـ

بطبيعة الحال رواية الزبير "بايعت واللج على عنقي" هي في الأساس ليست من قبل علي بن أبي طالب –رضي الله عنهما- بل من قبل الأشتر؛ أحد زعماء الفتنة والثورة الخوارج على عثمان.
قد يكون لهذه الرواية وجاهة وتخريج أن الزبير بايع تقية سياسية لكي يتخلص من الضغط والهروب من المدينة من بين يدي المجرمين من قتلة عثمان، والدليل لحاقه بعائشة في مكة، مع أنه لم يخرج من المدينة مطالباً بدم عثمان، أو متزعماً لفريق الطلب، بل كان مهاجراً إلى مكة هارباً من أحداث المدينة، ولما علم بمراد عائشة -رضي الله عنها- الذهاب إلى المدينة لإصلاحها والمطالبة بدم عثمان اقترح عليها الذهاب إلى العراق وقال لها: "عسى الله أن يصلح بك بين الناس"، وهنا بدأت دفة قيادته لفريق عائشة.
من يقرأ موقف عائشة –رضي الله عنها- وسيرتها يدرك عظمة هذه المرأة، وأي عظمة!
هي أول من استنكر واستعظم مقتل عثمان، وقالت قولتها المشهورة: "لأصبع من أصابع عثمان خير من طباق الأرض أمثالهم"(تاريخ الطبري: صـ799).
وكانت مرجع الصحابة في كثير من الإشكالات، وكانت أعظم فقهاء الصحابة في الحديث والفقه؛ يرجعون إليها في كل صغيرة وكبيرة، وكانت محل إجماع الصحابة، ولذلك حينما تزعمت مسألة القصاص كانت تراها أعظم قضية؛ فعندها كيف يقتل خليفة المسلمين صبراً في داره دون نصير؟!
وكيف يتخاذل الصحابة في منع قتل عثمان؟ كما كان هناك بعض المواقف لبقية أزواج النبي في مناصرة عثمان أثناء الحصار.
فقد كانت عادة أول أمر خليفة المسلمين أن يقوم بالقصاص والبت في القضايا العاجلة؛ عند آخر قضية للخليفة السابق؛ كما فعل عثمان في قضية عبيدالله بن عمر بن الخطاب الذي قتل الهرمزان الذمي المسالم ثأراً لابيه؛ فقتله متأولا، فتم حبسه بعد وفاة ابيه عمر.
فلما تولى عثمان الخلافة كانت اول قضية يبت فيها، وتحمل عثمان الدية عنه، ولذلك كان سبب التحاقه بمعاوية للمطالبة بدم عثمان فيما بعد.
وجدت عائشة نفسها أمام الموقف المتردي لأهل المدينة في الاستسلام، وأمام قضية الثأر لعثمان أن المسؤولية تقع على عاتقها؛ فالحادثة في نظرها لم تكن هينة ولا ليتم السكوت عليها مهما كلف الأمر، ولذلك حشدت بعدها من حشدت للمسير نحو البصرة للمطالبة بقتلة عثمان.
أمام موقف عائشة أيضاً فقد استغلها الزبير وابنه عبدالله، كما في رواية عن عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- حينما سألته عائشة لاحقاً: لماذا لم تنهني من الخروج للبصرة؟ فقالت: "يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مَا مَنَعَك أَنْ تَنْهَانِي عَنْ مَسِيرِي؟! قَالَ: رَأَيْت رَجُلًا غَلَبَ عَلَيْك - يَعْنِي ابْنَ الزُّبَيْرِ- فَقَالَتْ: أَمَا وَاَللَّهِ لَوْ نَهَيْتَنِي مَا خَرَجْت"(نفس المصدر/الطبري803، نصب الراية: للزيلعي: ج4، ص70، إسلام ويب الألباني، ابن الأثير، منهاج السنة: لابن تيمية: ج4، صـ335).
إلتقى علي بن أبي طالب عائشة وطلحة والزبير في المربد بالعراق، وتحاوروا جميعاً، وخلص الجميع إلى الاتفاق بالتبرؤ من قتلة عثمان وملاحقتهم، حتى أن علياً قال لهم إنه متبرئ منهم، ولعن قتلة عثمان قبل التحاور كشرط لعائشة. ولما نادى علي بالرحيل إلى البصرة بعد هذا الاتفاق قال: "ألا وإني راحل غداً فارتحلوا، ألا ولا يرتحلن غداً أحد أعان على عثمان بشيء في شيء من أمور الناس، وليغن السفهاء عني أنفسهم"(الطبري: ج4/493).
هذه الروايات لم يكتب عنها أو يأخذ بها أحد من اليمنيين الذين كتبوا عن علي وعن معاوية وعن موقعة الجمل، وهو افتئات غير أمين في كتابة الأحداث.
يبدو أن علياً في هذا الموقف لما رأى جيشاً ثالثاً خالصاً من بقية الصحابة انتابه بصيص أمل في تكوين نواة جيش حقيقي يمكنه الاعتماد عليه مع من معه الاقتصاص من قتلة عثمان، فوصل إلى قناعة الاقتصاص، لكن الوقت كان قد أزف؛ فقد أربك قتلة عثمان كل المواقف لإدراكهم الخطر ضدهم بهذا الاتفاق.
هنا أدرك قتلة عثمان الخطر المحدق عليهم باتفاق جميع الأطراف على مقاتلتهم، فاتفق القتلة، وهم أيضاً من الخوارج على عثمان والسبئية على إفشال هذا الاتفاق، وقد كانوا كثر في صف علي، فاتفقوا ليلاً في نفس مكان الحوار على دس بعض منهم في الصفوف الموالية لعائشة والزبير وطلحة والغالبية في صفوف علي.
ومما جاء عند الطبري [معظم الأحداث التاريخية الإسلامية مصدرها الطبري؛ كونه أول من أرخ لها] في هذه المكيدة أن "اجتمع نفر، منهم علباء بن الهيثم، وعدي بن حاتم، وسالم بن ثعلبة العبسي، وشريح بن أوفى بن ضبيعة، والأشتر، في عدة ممن سار إلى عثمان، ورضي بسير من سار، وجاء معهم المصريون: ابن السوداء [عبدالله بن سبأ]، وخالد بن ملجم، وتشاوروا، فقالوا: ما الرأي؟ وهذا والله علي، وهو أبصر الناس بكتاب الله وأقرب ممن يطلب قتلة عثمان، وأقربهم إلى العمل بذلك، وهو يقول ما يقول، ولم ينفر إليه إلا هم والقليل من غيرهم، فكيف به إذا شام القوم وشاموه، وإذا رأوا قلتنا في كثرتهم؟!
أنتم والله ترادون، وما أنتم بأنجى من شيء. فقال الأشتر: أما طلحة والزبير فقد عرفنا أمرهما، وأما علي فلم نعرف أمره حتى كان اليوم، ورأي الناس فينا والله واحد [يقصد رأي فريق عائشة وفريق علي]، وإن يصطلحوا وعلي فعلى دمائنا، فهلموا فلنتواثب على علي فنلحقه بعثمان، فتعود فتنة يرضى منا فيها بالسكون"(تاريخ الطبري: ج4/493)؛ أي أن مخطط قتل علي كان في ذهن رؤساء الفتنة منذ البداية إن هو خالفهم.
دارت الكثير من المناقشات بين هؤلاء الخوارج أصحاب الفتنة، وخلصوا إلى رأي عبدالله بن سبأ الذي يقول فيه: "يا قوم، إن عزكم في خلطة الناس، فصانعوهم، وإذا التقى الناس غداً فأنشبوا القتال، ولا تفرغوهم للنظر، فإذا من أنتم معه لا يجد بداً من أن يمتنع، ويشغل الله علياً وطلحة والزبير ومن رأى رأيهم عما تكرهون. فأبصروا الرأي، وتفرقوا عليه والناس لا يشعرون"(المصدر نفسه: ج4/494. القصة طويلة، والروايات كثر أحببنا أن نورد الخلاصة فيها، ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى المصدر).
إتفق قتلة عثمان ليلاً على أن يندمجوا في صف الفريقين المتلاقين في الصباح، حتى إذا كان الصباح بعد التقاء علي وعائشة تناهشوا فيما بينهم وأسعروا القتال، فكانت عائشة والزبير وطلحة يظنون أن علياً خدعهم ويدعون عليه، وكان علي في خيمته ولم يسمع إلا جلبة الحرب فظن أن الزبير وعائشة وطلحة تراجعوا عن الاتفاق، فكان الناس يقتتلون ولا يدرون على ماذا، حتى إن الخوارج قاموا برشق هودج عائشة بالسهام، قال الرواة: فصار هودجها كأنه قنفد بكثرة الشوك، فأمر علي محمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر أن يحميا هودج أخته عائشة وينزله من الجمل، ولما كثر القتل بين الطرفين صاح علي، وقيل القعقاع: إعقروا الجمل حتى يسقط لكي يستطيعوا تخليص عائشة من الهودج والقتل ويسقط وكأنه راية إذا سقط هدأت المعركة، وأمر القعقاع بن عمرو التميمي أن يضرب الجمل ويحمي عائشة حتى سقط الجمل فحمل هودج عائشة بعيداً عن الحرب، وما زالت عائشة بعد ذلك تعرف صنيعاً لعلي في هذا الموقف.
...... يتبع