همدان والجريمة المركبة

في عام 2006، صادفت مقالة منشورة على موقع إلكتروني، تحمل توقيع “همدان العليي”. بدا الاسم للوهلة الأولى مستعارًا، رغم دلالته القبلية الواضحة. غير أن ما شدّني لم يكن الاسم، بل النص ذاته: مقالة جريئة تدين عنصرية جماعة الحوثي، مكتوبة بلغة تزن الكلمات بميزان الذاكرة، لا تُمحى بسهولة.
تلك المقالة كانت بداية تواصل بيننا، بدأ عبر البريد الإلكتروني للصحيفة، ثم عبر الهاتف، قبل أن ينضم العليي إلى كُتّاب صحيفة “الجمهورية”. التقيته مرتين: الأولى في صنعاء، قبيل اجتياحها من قِبل الميليشيا، والثانية قبل أشهر. وفي المرتين، بدا لي كما تخيّلته من كتاباته: هادئ النبرة، صلب القامة.
كتابه الأخير، “الجريمة المركبة”, لم يخرج عن ذلك السياق؛ ليس صرخة، ولا خطبة، بل توثيق محكم لما جرى. نص لا يوزّع الاتهامات جزافًا، ولا يتجمّل بالأوصاف، بل يكتب بلغة أقرب إلى محاضر التحقيق منها إلى أدبيات السياسة.
الكتاب يرصد مشروع جماعة لم تأت لتتنافس على الحكم، بل لتستعيد “الحق المقدّس” فيه، كما لو أنّه إرثٌ لا يحقّ لغيرها الاقتراب منه. وفي مقدّمته، يرى الدكتور أحمد عبيد بن دغر أن الحوثيين لم يغادروا مشروع الإمامة، بل أعادوه بثوب جديد ومفردات لينة تُخفي المضمون القديم. تغيّرت المصطلحات، أما الهيكل العقائدي، فقد ظل على حاله: الإمام، والعكفي، والفرز السلالي… كلّها استعادت مكانها.
وفي تقديم آخر، يؤكد عبدالملك المخلافي أن التجويع لم يكن نتيجة الحرب، بل أداة رئيسية من أدواتها. فالرصاص يصيب مرة، أما الجوع ففعله يتكرّر كل يوم. تلك كانت وسيلتهم الأولى للسيطرة.
العليي لا يكتفي بالتشخيص، بل يذهب إلى الأرشفة الدقيقة: يقدّم أرقامًا، ووثائق، ووقائع تؤكد كيف تحوّلت المساعدات الإنسانية إلى أداة نفوذ، وكيف أُعيد توزيع المناصب والموارد بناءً على الولاء السلالي. في صنعاء، لم يعد الغذاء يُقدّم باعتباره حقًا إنسانيًا، بل يُدار كورقة سياسية.
ثمّة حقائق باتت معروفة، لكن قلّة من تجرّؤوا على توثيقها: تفجير القرى، تهجير السكان، تفخيخ البيوت، وإحلال مقاتلين محل السكان الأصليين. يصف نصر طه مصطفى ذلك بدقّة: “هذا ليس نزاعًا، بل فرز طبقي وسلالي”. واقع لا يشبه الحرب، بل إعادة هندسة قسرية لمجتمع بأكمله.
التعليم أيضًا لم يسلم. المدرسة تغيّر معناها، والمعلّم لم يعد معلّمًا بل “مشرف ثقافي”. أما التاريخ، فلم يعد يُدرّس بل يُعاد تأليفه. وصف فرناندو كارفاخال، خبير الأمم المتحدة، ما يحدث بأنه “إبادة ثقافية مكتملة”. لم يعد يُسأل الطفل عمّا تعلّمه، بل لمن ينتمي ولاءه.
همدان العليي يكتب ضد النسيان. يوثّق الجرائم بالأسماء، والتواريخ، والمدارس التي أُغلقت، والألغام التي زُرعت، والمساعدات التي لم تصل. في زمن البيانات العابرة، يأتي هذا الكتاب ليبقى.
قد لا يُحدث أثرًا مباشرًا الآن، لكنه سيسجّل ما جرى.
وفي هذا الزمن المائل، يكفي أن يُكتب ما حدث… كي لا يُعاد.