مع الأستاذ ضوء الفانوس علم الهدى وقصصه العجيبة الغريبة

عندما بدأنا امتحانات نهاية العام 1992م لم أصدق أن العام الدراسي قد انتهى أخيرا، مر ذلك العام ثقيلا كأنه سبع سنوات عجاف.
ولذا لم أصدق أنني سأتحرر من سجن المدرسة التي كرهتها كره العمى بسبب مدرس سوداني كان يقسو علينا بالتوبيخ والضرب بعصاه الغليظة التي لم تكن تفارقه.!
كنت حينها في الصف الأول إعدادي، وكان الأستاذ ضوء الفانوس علم الهدى مدرس الرياضيات قد نجح وبتفوق يحسد عليه بأن جعلني أكره هذه المادة إلى الأبد.!
من حينها وأنا أرى الرياضيات أرقام غامضة وطلاسم عصية على الفهم.
كان دائما غاضبا عبوسا قمطريرا، ووراء حالته تلك قصة غريبة عجيبة فقد كان يسكن بجوارنا ويخوض مشاجرات عنيفة مع زوجته وبشكل يومي، فقد كانت تثور عليه لأتفه الأسباب فيرد عليها بأبشع الكلمات ثم يقوم بتحطيم أدواتها، فتنتقم منه بتحطيم أدواته، وحين تنتهي أدواتهم ينتقلان إلى المطبخ ويحطمان أدواته، ثم ينتقلان إلى بقية غرف البيت ويحطمان كل شيء في طريقهم.!
وكنت حين تشتد المعركة بينهم ونسمع تكسر الأدوات أذهب مع بعض أولاد الحيران إلى جوار باب منزلهم لأنهم كانوا أثناء الشجار يرمون ببعض الأشياء من الداخل إلى الحوش، وإذا تطورت المعركة بينهم خرجوا إلى الحوش ورموا بتلك الأشياء إلى الشارع فكان أحيانا يقع في يدي قلم أو دفتر أو مشاط أو صحن، أي شيء. أنا ورزقي.!
وكنا نطرق الباب عليهم ونعيد لهم تلك الأشياء فيقسم الأستاذ ضوء الفانوس علم الهدى أنه ما داير حاجة، وأننا نأخذها لينا:
_ يازول أنا حلفت ما ترجع حاجة، عليك الله ما تخلينا أزعل منك.
وحينها نأخذها ونمضي بعد أن صارت لنا حلال زلال بعد أن حلف الأستاذ.!
واشتهرت قصة هذا المدرس في المنطقة فكانت بعض النسوة تأتي وتنتظر معنا حتى تأخذ ما كتب الله لها، وكنا نسبق الكل لنأخذ نصيبنا من تلك المقذوفات، حتى أن بعض النساء كن حين يأتين يسألننا:
_ قد تصايحوا والا عادهم؟!
وأتذكر أن امرأة تصايحت مع أخريات جئن لذات الغرض لأنها بحسب قولها محتاجة لصحون، ولذلك فالصحون التي سيرمون بها في ذلك اليوم لها وحدها.
وأحيانا كنا نمل من الانتظار فنقوم نلعب الكرة _ أمد ما يتصايحوا _ نلعب ونسمع الأغاني السودانية تنبعث من راديو الأستاذ ضوء الفانوس فندرك أن المبارأة بينهم لم تبدأ بعد لأنهم حين يبدأون الشجار يوقفون صوت الراديو.
وكنا نشاهدهم بعد أن تضع الحرب أوزارها بينهم يخرجان معا وهما يتهامسان ويضحكان وكأن شيء لم يكن.!
لقد كانوا يخرجون إلى السوق ليشتروا أدوات جديدة بدلا عن تلك التي تكسرت أو رموها إلى الخارج.!
وكان هذا المدرس يأتي إلى المدرسة وهو يزفر ويكاد يتميز من الغيظ، ومن وجهه تدرك أنه كاره للعيشة واللي عايشين فيها ومش طايق روحه فيفش غله فينا ويهجم علينا بالضرب الشديد بعصاه الغليظة لأي سبب.!
وبسبب هذا الضرب الذي نالني منه الكثير كرهت المدرسة والدراسة، حتى أنني كنت أذهب وآخذ الأشياء التي يرمون بها كنوع من التعويض عن ذلك الضرب المبرح الذي أتلقاه منه بشكل يومي.!
قبيل امتحانات نهاية العام جاء أحد أولاد الجيران ممن يدرسون معي في الفصل وأودع عندي عدة كتب قال إنها تمنعه من المذاكرة.
لم أهتم حينها بتلك الكتب حيث وضعتها في حقيبتي، وعندما نهاية الإمتحانات غادرنا مدينة العدين على عجل إلى قريتي التي لم يكن بها حينها مدرسة إعدادية.
وفي بيتنا أكتشفت أنني حملت كتب زميلي معي دون قصد، ودفعني الفضول للإطلاع عليها فإذا مكتوب عليها " ألف ليلة وليلة" بأجزائها الأربعة.
وبدأت أقرأ في الكتاب الأول: " كان يا مكان في سالف العصر والآوان ملك يقال له شهريار ..ألخ
وبينما أنطلق أخي إلى منازل أعمامي للعب مع أولادهم خلال العطلة الصيفية غرقت أنا في تلك القصص حتى ذهلت عمن حولي، وكانت لنا دكة في بيتنا فاعددت لي متكئا فيها أقرأ تلك القصص ليلا ونهارا، أنام والكتاب بيدي وأصحو لأقرأ من جديد.!
ولم يكن الكتاب يفارق يدي الا في أوقات الصلوات، وقد كنت أتوضأ وأصلي وأنا ذاهل عن الدنيا والآخرة، فأحيانا أصلي العصر ثلاث أو خمس ركعات، ولا أدري ما كنت أقول في صلاتي حينها فقد كنت مثل ذلك الدرويش الصوفي الغائب عن الدنيا تماما.!
وكانت أمي في غاية الفرح والسعادة فقد رأت أن الله قد استجاب لدعواتها وشرح صدري للعلم الشرعي، فقد كانت أمية لا تقرأ ولا تكتب وكل كتاب عندها هو كتاب علم شرعي.!
وتوقعت حينها لطيبتها بأن أصبح في المستقبل شيخ علم، وكيف لا أصبح شيخ علم والكتاب لا يفارق يدي؟!
وكانت تقدم لي الطعام في مجلسي وأنا شارد في عوالم تلك القصص، ولو علمت أمي ببعض ما في تلك القصص من بلاوي زرقاء لضربتني بالشبشب.!
وبعد أن أكملت قراءة تلك الكتب خلال ثلاثة أسابيع وعدت للتغطية أكتشفت أن أمي قد ذبحت كل الدجاج التي ربتها للشيخ محمد حتى يتقوى بها على طلب العلم، خاصة وأنه منهمك في طلب العلم فالكتاب لا يفارق يده.!
والحق أنني استفدت من قراءة تلك القصص رغم ما فيها من لقطات خادشة ومشاهد مثيرة، لقد استفدت منها ثراء في الألفاظ والمفردات، وكيفية سرد القصص، وذلك الحب الجارف للقصص، وهو الحب الذي لم يفارقني حتى الآن.
وإن كنت بعد ذلك بسنوات قد سعيت لأن أطلب العلم الشرعي فعلا فإذا بي أعود بعد سنوات من طلب العلم إلى القصص، وكل ميسر لما خلق له.
*قصة قصيرة