موسكو ودورها بعد أحداث الساحل السوري

شهدت محافظات الساحل السوري أحداثًا دامية في الأيام الماضية، عقب تمرد واسع لعناصر النظام السابق في المنطقة. تلا ذلك تعزيزات عسكرية للحكومة السورية الجديدة، في إطار حملة أمنية لملاحقة فلول النظام والقضاء عليهم، ودخلت على إثره فصائل أخرى لمؤازرة القوات الحكومية، ما أدى إلى اختلاط الواقع الميداني، الأمر الذي أدى لوقوع ضحايا مدنيين قُتلوا لأسباب طائفية، وبأساليب مشابهة لتلك التي كان النظام يعتمدها.
وفقًا للمرصد السوري لحقوق الإنسان، ارتفع إجمالي عدد المجازر إلى 41 مجزرة، بينما اقترب عدد الجثث التي تم العثور عليها حتى الآن من 1600 ضحية. وأشار المرصد إلى أن هناك العديد من المناطق التي لم يتم الوصول إليها بعد. وقد وصفت منظمات حقوقية المعارك في الساحل بأنها ترقى إلى جرائم تطهير عرقي بحق الأقلية العلوية التي تسكن تلك المنطقة.
وأعاد المرصد السوري لحقوق الإنسان طرح بعض التساؤلات حول المقاتلين الذين توافدوا إلى مدن وقرى الساحل، من تلك القوات ظهر اسم مجموعتين، العمشات والحمزات، وكلاهما تعملان في إدلب في إطار ما يعرف بـ"الجيش الوطني" المدعوم من تركيا، وتشير تقارير ميدانية إلى أن هذين الفصيلين، نفذا عمليات تصفية جماعية بحق سكان حي القصور في بانياس، الذي تقطنه غالبية من الطائفة العلوية، كما أحرقت منازل المدنيين في المنطقة.
أثار هذا الأمر موجة من الغضب العارم في الشارع السوري، حيث وصفه المواطنون بأنه أعمال وحشية وغير إنسانية. وقد دفع ذلك العديد من سكان الطائفة العلوية إلى الهروب نحو قاعدة حميميم الروسية، بعد الهجمات الدامية التي استهدفت بلداتهم وقراهم. ورغم أن الأوضاع قد استقرت نسبيًا، إلا أن الكثيرين لا يزالون مترددين في العودة، وذلك نظرًا للمخاوف الأمنية المستمرة.
وصف وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الأحداث الأمنية التي شهدتها منطقة الساحل السوري بأنها "غير مقبولة"، مطالبًا السلطات السورية بضمان مشاركة جميع مكونات المجتمع في العملية السياسية. ومن جهة أخرى، صرح المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف بأن روسيا تأمل في رؤية سوريا دولة موحدة ومزدهرة ومتطورة وصديقة.
كما أعربت المتحدثة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، إلى أن قاعدة حميميم تؤوي حوالي تسعة آلاف شخص، غالبيتهم من النساء والأطفال الذين يبحثون عن ملاذ آمن من العنف، وأشارت زاخاروفا إلى أن بلادها تتواصل مع السلطات السورية بشأن سلامة المواطنين السوريين، وحثت جميع الأطراف في سوريا على تبني نهج مسؤول من أجل استعادة الأمن والاستقرار في أسرع وقت ممكن.
وتقول تقارير مقربة من قيادة القاعدة الروسية أنّ القوات المتواجدة في قاعدة حميميم بذلت جهوداً كبيرة لإنقاذ المدنيين وإعادتهم إلى حياتهم الطبيعية. وأشارت القيادة الروسية في القاعدة إلى أنها ستوفر كل ما يلزم لحين وقف الانتهاكات.
وأشارت التقارير إلى أن التعاون الروسي-السوري مستمر لتأمين الظروف المناسبة للسكان في القاعدة، خاصة في ضوء الأنباء المتداولة حول إرسال قوات أحمد الشرع للمساعدات الإنسانية، وذلك ضمن إطار التعاون المتبادل بين البلدين في ملف الساحل السوري، كما تم إرسال باصات لنقل الأهالي إلى منازلهم، إلا أن الأهالي رفضوا الخروج بسبب مخاوفهم من الميليشيات.
مما سبق نؤكد أن استمرار وجود روسيا في سوريا يعتبر أمرًا ضروريًا، خاصة وأن موسكو تلعب دورًا محوريًا في المنطقة، وليس فقط من الناحية العسكرية، بل أيضًا الاقتصادية والسياسية وتتزايد هذه الأهمية مع التقارب الأخير واهتمام موسكو بتوقيع اتفاقيات طويلة الأمد في مجالات إعادة الإعمار والنفط والغاز، بالإضافة إلى مساهمتها في مشروعات البنية التحتية في المدن الساحلية وفي مناطق أخرى.
ولطالما كانت روسيا تحظى بنفوذ كبير في منطقة الشرق الأوسط، وبالأخص في سوريا، وذلك لأسباب تاريخية وسياسية واستراتيجية ولم تتغير هذه الأمور مع الحكومة السورية الجديدة، خصوصًا مع التزام القيادة السورية الجديدة بالتعاون مع موسكو، شريطة أن يحترم ذلك مصالح سوريا الوطنية.
وبرغم أحداث الساحل فإنه مما لا شك فيه أن الإدارة السورية الجديدة تواصل جهودها لبسط الأمن والاستقرار على كامل الأراضي السورية تحت سلطة واحدة ومع ذلك، فإن الانتهاكات التي شهدها الساحل السوري تشير إلى هشاشة الوضع الأمني في البلاد، وتبرز الصعوبات التي تواجهها الإدارة الجديدة في تحقيق الاستقرار وإعادة بناء الدولة وفي الوقت نفسه بات خيار التعاون السوري-الروسي الأنسب للإدارة السورية في ظل التطورات الأخيرة.
وفي ظل تسارع هذة الأحداث، شهدت العاصمة السورية دمشق توقيع اتفاق بين الرئيس السوري أحمد الشرع وقائد قوات سوريا الديمقراطية "قسد" مظلوم عبدي، يقضي بـ"دمج" جميع المؤسسات المدنية والعسكرية التابعة للإدارة الذاتية الكردية ضمن إطار الدولة السورية، وفقًا لما أعلنته الرئاسة.
وبرغم هذا الاتفاق إلا أنه لن يحقق النجاح المرجو منه، خصوصًا بعد أن صرح مسؤول في وزارة الدفاع التركية بأن العمليات العسكرية لتركيا ضد المقاتلين الأكراد في شمال سوريا "ستستمر". ومن شأن ذلك أن يؤدي إلى تصادم بين الحكومة السورية وتركيا وقد اتهمت أنقرة، التي تُعتبر حليفة للسلطة الجديدة في دمشق، وحدات حماية الشعب الكردية، التي تتولى قيادة قوات سوريا الديمقراطية، بالارتباط بحزب العمال الكردستاني، الذي تُصنفه أنقرة وواشنطن ودول أخرى كمنظمة "إرهابية".
ومن هنا يجب على الحكومة السورية، منع تركيا من تمرير أجنداتها على الأراضي السورية بما لا يتوافق مع رؤية الشعب السوري في ضرورة الحفاظ على سوريا موحدة وخالية من الاقتتال، ويكون في مقدور روسيا ضمان ذلك، نظرًا لقدرتها السابقة على توقيع اتفاقيات مع الجانب التركي وتشكيل مناطق لفض الاشتباكات.