اليمنيون والدرس السوري
![](https://media.almashhad-alyemeni.com/img/23/05/25/303325.webp)
لم يكن السوريون أكثر عدداً ولا عدة من أشقائهم اليمنيين، ولم تكن خلافاتهم ولا صراعاتهم البينية أقل من خلافات اليمنيين، ولم تكن ميليشيات إيران في سوريا بأقل قدرة من ميليشياتها في اليمن.
ومع ذلك انتصر السوريون، وحرروا بلادهم من واحد من أعتى أنظمة القمع الطائفي المتدثر بالعباءة القومية، فيما لا يزال اليمنيون يكثرون الكلام ويقلون العمل، ويتخبطون في متاهات الهجرة والانقسامات والصراعات المتفاقمة.
انتصر السوريون، لأنهم أرادوا تحرير وطنهم من ميليشيات طهران، ومن نظام الجريمة والكبتاغون. الإرادة أهم عناصر تحقيق النصر، الإرادة هي تلك الروح التي تعيد الحياة للجسد الذي نهشته ديدان الانقسامات والأمراض، هي تلك الطاقة الداخلية التي يسميها أهل الأديان معجزة.
ومع الإرادة حدد السوريون هدفهم، ومع تحديد الهدف وحدوا جهودهم، ومع توحيد الجهود أصبحت لهم قيادة واحدة، وحول القيادة الواحدة التف المقاتلون، وخاضوا المعركة من داخل وطنهم وانتصروا، وخرجت ملايين السوريين تحتفي بسقوط الأصنام، حيث حدثت المعجزة التي لم يكن أكثر المراقبين تفاؤلاً يتوقع حدوثها.
اليمني يستطيع أن يحقق المعجزة، والحوثي أوهى من نظام بشار الذي اجتمعت له قوة حزب الله وميليشيات عراقية وأفغانية وباكستانية كثيرة، وهرع إليه خبراء إيران، عدا عن جيش نظامي كبير، كما اجتمع له دعم دولي سياسي وعسكري، في حين كان الثوار مصنفين إرهابيين، وكانوا مطاردين ومحاصرين في مساحة صغيرة شمال غرب البلاد، قبل أن تتسع هذه المساحة لتشمل معظم التراب السوري اليوم.
سينتصر اليمنيون، ولكنهم يحتاجون قيادة، قيادة تكون جذورها راسخة على ترابها الوطني، قيادة لا تغادر البلاد لحظة واحدة، تلتحم بجنودها وتواسي مواطنيها، وتخطط لاستعادة عاصمتها، وترفض المساومة على ثوابتها الوطنية، مهما كانت الظروف والملابسات.
الحقيقة المرة هي أن الشرعية اليمنية لم تنتصر لسبب وجيه، وهو أنها خرجت من عاصمة بلادها، ثم بعد ذلك غادرت الوطن بشكل دائم، لتصبح العودة للبلاد مجرد زيارة سريعة وخاطفة، وكأن مسؤولي هذه الشرعية يزورون بلداً آخر.
غادرت القيادة البلاد، فغادرت الأحزاب السياسية، وغادر كثير من زعماء القبائل وقادة المقاومة والأدباء والشعراء والفنانين، وغادر الصحافيون وأئمة المساجد وأساتذة الجامعات، ومئات الآلاف خرجوا جميعاً، وتركوا البلاد لعبث الميليشيات التي لم يكن لها من هم إلا حيازة السلطة والثروة، والانفراد بالشعب المغلوب على أمره، مع غياب تام لمن يفترض أن يواجهوا هذه الميليشيات، ممن ظلوا يرددون – عن ضعف لا عن حكمة – مقولات مطاطة عن «الحل السلمي» المتاح، و«الحل العسكري» الذي وصل إلى طريق مسدود.
وعلى الرغم من أنني لا أحب إلقاء المواعظ والدروس، لكن يمكن أن أسرد بعض الدروس التي يمليها علينا الحاضر ـ ولا أقول التاريخ البعيد ـ خذوا تلك الدروس التي لا تزال حية طرية، تتعاقب فصولها أمام الأسماع والأبصار، خذوها مجانية، لا تأخذ عليها الأيام أي مقابل، وغالباً ما تكون دروس الأيام دون مقابل، وآمل أن تستفيدوا منها، مع علمي أن الدروس المجانية لا يستفيد منها معظم الناس، ولا يتلقاها بعقل متفتح إلا من هدي إلى الطريق القويم، ولأن دروس الأيام مجانية، فإن من لم يتعلم منها يدفع ثمناً باهظاً، ويواجه خسارة لا يمكن تعويضها.
خذوا هذه: عرض على رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد التفاوض مع متمردي التيغراي الذين زحفوا في 2021 على العاصمة أديس أبابا، عرض عليه التفاوض، لكنه رفض، هددوه بسحب جائزة نوبل للسلام التي منحت له من قبل، بسبب توقيعه على اتفاق السلام مع أريتريا في 2018، وهو الاتفاق الذي طوى صفحة الحرب بين البلدين، ولكنه لم يرضخ للتهديد، هدده الأمريكيون بعقوبات، ولكنه لبس البدلة العسكرية، وخرج لقيادة قواته، في الخطوط الأمامية، وترك العاصمة في عهدة نائب له.
بعد فترة وجيزة كان المتمردون يطالبون بالتفاوض على نزع أسلحتهم، ويتوسلون إرسال الماء والغذاء، بعد أن أكد رئيس الوزراء على أن أثيوبيا ستقاتل «بشجاعة ضد أية قوة تعرض سيادتها للخطر».
في 2022 اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية، كانت القوات الروسية تتقدم في اتجاه كييف، وقد دخلت أول ضواحيها، ظن العالم أن الأمر انتهى، وطُلب من الرئيس الأوكراني مغادرة العاصمة، على أن يتم توفير خروج آمن له ولعائلته، ويمنح اللجوء السياسي.
لكنه ـ وهو في الأصل ممثل دراما تلفزيونية لا يعرف استعمال السلاح ـ رفض العرض، وصمد في عاصمة بلاده، وأجبر القادة الغربيين على أن يتقاطروا على العاصمة للقائه، مع جسور من الدعم العسكري لا تنقطع، كان الغرب يرسلها لكييف، في الوقت الذي يرسل لبلادنا مبعوثي سلام، حيث يراد منا أن نصدق أن الحرص على السلام في اليمن، أكثر من الحرص على السلام في أوكرانيا، مع أن الواقع يقول إن إرسال السلاح إلى أوكرانيا، وإرسال مبعوثي السلام إلى بلادنا يشير إلى رغبة كبيرة في هزيمة روسيا، ورغبة مماثلة في منع هزيمة الميليشيات.
وخذوا هذه: في 2023 تمردت قوات الدعم السريع على الجيش والدولة السودانية، حوصر الرئيس عبد الفتاح البرهان في مقر قيادة الجيش في الخرطوم التي سيطر المتمردون على معظمها، صمد البرهان، حتى تم إخراجه ليقود المعركة من بورت سودان (العاصمة المؤقتة) حينها كانت قواته في الخرطوم محاصرة، لا تأتيها تغذيتها إلا عبر الطائرات.
ثم ماذا جرى؟ قبل أيام فك الجيش الحصار عن القيادة في الخرطوم، واليوم يلاحق هذا الجيش المتمردين في كل مدينة.
والآن، وبغض النظر عن مع من تكونون: مع آبي أحمد أو مع التيغراي، مع زيلنسكي أو بوتين، مع البرهان أو حميدتي، أياً ما يكن الموقف، فإن الحقيقة الدائمة لا تتغير: القيادة تحدث الفارق.
لا نصر دون قيادة قوية تخوض معاركها ـ كل معاركها ـ من داخل الوطن، لا دولة دون قيادة تمارس سلطتها على ترابها الوطني، ولا قيادة تستطيع توفير النصر وتقود البلاد إلا إذا رأت هذه القيادة أن السلطة مسؤولية لا منصب وامتيازات.
لم يعد الوضع يحتمل هجرة الشرعية اليمنية، لم يعد يحتمل انقساماتها، هذا وضع مخجل للقيادة وللناس على السواء. الوقت يمر، وإذا لم تكونوا في موقع أحمد الشرع، فستؤولون لمصير بشار.
كلام مختصر، فإذا لم يكن مفهوماً، فأرجو أن تعاد قراء الدرس السوري على وجه التحديد.
*القدس العربي