الخميس 6 فبراير 2025 06:35 صـ 8 شعبان 1446 هـ
االمشهد اليمني
Embedded Image
×

هل أجل جَلاء الإنجليز إعلان الوحدة اليمنية؟

الخميس 5 ديسمبر 2024 01:55 مـ 4 جمادى آخر 1446 هـ

لم تكن الوحدة اليمنية أكثر من شعار مَرحلي ذا بريق أخاذ، سعى القادة السياسيون - بشقيهم التقليدي والتقدمي - من خلاله إلى دغدغة عواطف اليمنيين، ليخف ذلك الحماس مع بدء العد التنازلي لجلاء الإنجليز من عدن، عقدت الجبهة القومية مُؤتمرها الأول في مدينة تعز - أواخر يونيو 1965م، وأشارت في ميثاقها إلى قضية الوحدة إشارة مُقتضبة، ودعت إلى تحقيقها على أسس شعبية سليمة تتفق وتوجهها، ذات الموقف تبنته أيضًا جبهة التحرير، ولم يكن للخلاف الدائر بين الفصيلين علاقة مُباشرة بتلك القضية؛ فكلاهما كانا يسعيان إلى إقامة دولة مُستقلة في الجنوب، تكون طرفًا في حوار مُباشر مع الدولة القائمة في الشمال.
صراع قُطبي
بدأت مَطامع السوفيت في السيطرة على جنوب اليمن - حينها - تتبدى، وكان وزير خارجيتهم قد أفصح عن ذلك، وقال في تصريح صحفي من مدينة القاهرة 29 مارس 1967م ما نصه: «يجب العمل على إنشاء دولة اشتراكية مُستقلة في هذه المنطقة، وأنَّ الاتحاد السوفيتي يحتفظ لنفسه بحق التصرف تجاه أي حل تُقرره الأمم المتحدة تجاه مُشكلة الشرق الأوسط، وخصوصًا عدن»، شَاركه وزير الدفاع المارشال أوستينوف ذات الموقف، وقال الأخير مُهددًا: «إنَّ احتمالات نشوب حرب عالمية ثالثة قد تتزايد بدرجة كبيرة إذا لم نستحوذ على اليمن الجنوبي، وتصبح بين أيدينا».
ألقى الصراع القُطبي بظلالة على الخارطة المُفخخة، سيطر السوفيت عبر وكلائهم المحليين على الجنوب، فيما دخل الشمال تحت مَظلة الطرف الآخر، وفي خضم ذلك التحول المُريع، لم يتبادل قادة الشطرين السفراء فيما بينهم؛ على اعتبار أنَّ الوحدة تبقى خيارًا مفتوحًا، مع فارق أنَّ كل طرف يُريدها مُفصلة على مقاسه.
زادت - بفعل تلك التباينات - القطيعة، وحلَّ الشقاق، واستبدلت لغة الوحدة الطوعية بلغة الضم والإلحاق، ولم يعد التنقل بين الشطرين مُتاحًا كما كان في عهدي الأئمة والإنجليز، وأصبح المواطنون لا يستطيعون ذلك إلا بصعوبة، وبتصريح أمني خاص، وتحت المساءلة، بل يقفون لساعات أمام العديد من الحواجز الأمنية للتفتيش والتحقيق، وهي - أي تلك الحواجز - بلغت حينها نحو 19 حاجزًا.
والأدهى والأمر من ذلك أنَّ الوحدة صارت مصدرًا لمشروعية النظامين، تغنى قادتهما بها، وتاجروا بها، واتهموا بعضهم بعضًا بعرقلة تحقيقها، ومن أجلها أشعلوا الحرب، وسفكوا الدماء.
عنف ثوري
في أول خطاب له بعد أنْ أصبح رئيسًا للجنوب، قال قحطان الشعبي من على شرفة قصر الشكر بكريتر أنَّه مُستعد لإعلان الوحدة اليوم قبل بكرة، إذا كان الأخوة في الشمال عندهم نفس الرغبة والاستعداد؛ فما كان من الرئيس عبد الرحمن الإرياني إلا أنْ ردَّ عليه بخطاب عاطفي مُماثل، عبر فيه عن استعداده للتنازل عن الرئاسة، وما على الشعبي إلا أنْ يتوجه إلى صنعاء ليتسلم مَقاليد الحُكم.
لم يمضِ من الوقت الكثير حتى غير الرئيس الجنوبي - مُؤقتًا - موقفه، وهي حقيقة أكدها الدكتور حسن مكي في مُذكراته، حيث أشار أنَّه وأثناء تواجده في موسكو إبان حصار صنعاء ديسمبر 1967م وصلته - بوصفه وزيرًا للخارجية - رسالة من الرئيس الإرياني تأمره بالتوجه إلى عدن لتهنئة الجنوبيين بتحقيق الاستقلال، والمطالبة بتحقيق الوحدة بين شطري اليمن، وأفاد مَكي أنَّ الرئيس الشعبي استقبله بِحفاوة بَالغة، وخاطبه قائلًا: «إنَّ القيادة العامة للجبهة القومية قد وجدت أنَّ الوحدة غير مُمكنة في هذه الظروف، وقررت عدم التسرع في تحقيقها، وأرى شخصيًا أنْ تتركوا الجنوب يمضي في بناء دولته؛ حتى إذا ساءت الأوضاع في الشمال؛ يستطيع الأحرار اليمنيون أنْ يجدوا مكانًا يلجأون إليه».
وفي مَطلع شهر نوفمبر من العام 1968م قامت قوات جنوبية باجتياح منطقة مسورة التابعة لمحافظة البيضاء، وقبضت على الشيخ حسين الرصاص، وقتلت ولده الشيخ علي، وجماعة من أصحابه، وهي خطوة عدتها القيادة الجنوبية استباقية لإيقاف غزو الجنوب من تلك الجهة. وعلى الرغم من أنَّ الشيخ الرصاص كان مُتمردًا على القيادة الشمالية، وقاتل خلال السنوات الأخيرة في الجانب الإمامي، إلا أنَّ الرئيس الإرياني بعث للرئيس الشعبي برسالة اعتراضية، فَرَّد عليه الأخير برسالة توضيحية، جاء فيها: «إنَّ مسؤوليتنا جميعًا هي أنْ نُوحد جهودنا، وننسق مواقفنا ضد جبهة أعدائنا.. وأنْ نبدأ بتحقيق التنسيق الاقتصادي، والعسكري، والسياسي، سيرًا نحو تحقيق هَدفنا الأكبر في تحقيق وحدة الجنوب والشمال».
وأشار الرئيس الشعبي في رسالته تلك إلى جزئية هامة مضمونها: أنَّ القيادة في الجنوب أرسلت قبل تلك الحادثة بوزيري الخارجية وشؤون الوحدة إلى الشمال، وأضاف مُشددًا: «لابد من تنفيذ الاتفاق الذي تم بين وفدنا.. وبين المسؤولين الأشقاء في الشمال، وذلك بفتح مكاتب التنسيق المُتفق عليها فورًا، حتى تتحمل مسؤولياتها كاملة، وتحقق خطوة عملية نحو التنسيق، سيرًا إلى تحقيق الوحدة اليمنية».
من جهته اتهم الدكتور عبدالرحمن البيضاني قيادة الجبهة القومية بممارسة مُغالطات إعلامية، وذلك - حد توصيفه - منذ سلمتهم بريطانيا السلطة في الجنوب، وأضاف نَاقدًا: «كانت قيادة الجبهة ترفع شعار الوحدة اليمنية، وتُعلن أنَّها سوف تفرضها على صنعاء، بينما كانت صنعاء تُعلن على لسان وزير خارجيتها الأخ يحيى جغمان (تولى ذلك المنصب بتاريخ 14 سبتمبر 1968م) أنَّ المجلس الجمهوري يعرض رئاسة اليمن كلها على الأخ قحطان الشعبي».
وعلى ذِكر الوزير جغمان، فقد أفاد الرئيس الإرياني في مُذكراته أنَّ وزارة الخارجية أصدرت بيانًا حددت فيه موقف حكومة الشمال من الوحدة 2 فبراير 1969م، واتهمت فيه حكومة الجنوب بخلق معارك جانبية، والقيام بأكثر من 16 عدونًا على بعض قُرى محافظة البيضاء، والالتجاء إلى سياسة التشنج والمزايدات الجوفاء، ظانة أنَّها بذلك سوف تتخلص من الإحراج، وتنجو من المسؤولية التاريخية.
وردًا على ذلك البيان، قامت في اليوم التالي مظاهرة صاخبة في مدينة عدن، وألقى الرئيس الشعبي - بعد مرور أسبوع - خطابًا رحب فيه بالوساطة المصرية لإزالة الجفوة، واقترح لتحقيق الوحدة عددًا من النقاط، تمثل أبرزها بإقرار ميثاق الجبهة القومية لكلا الشطرين.
بعد شد وجذب بين حكام الجنوب الجدد، وصراع خفي ثم مُعلن، تخللته انتفاضة، ثم انتفاضة مُضادة، ونزوح إلى الشمال أيضًا، حسم يساريو الجبهة أمرهم، وانقلبوا على الرئيس قحطان الشعبي 22 يونيو 1969م؛ والسبب كما قال حيدر أبو بكر العطاس في تسجيل صوتي مُتداول، تحمسه - أي قحطان - لإصدار قانون الجنسية الجنوبية، الأمر الذي تعارض مع توجهات غالبية أعضاء الجبهة القومية الوحدوية، وهو قول لم أجد له ذكر في المراجع التاريخية التي وثقت لأحداث تلك الفترة.
وفي ذات الصدد ذكر عبده حسين أدهل في كتابه (الاستقلال الضائع) أنَّ المُنقلبون كانوا يؤمنون باتباع أسلوب العنف الثوري؛ الأمر الذي تعارض مع توجهات الرئيس الشعبي وفريقه، ويبقى هذا القول هو الأقرب للحقيقة.
حلَّ سالم ربيع علي (سالمين) محل قحطان الشعبي، فهرب المقصيون الجُدد (يمينيو الجبهة) شمالًا، وبمعنى أصح من نجا منهم من التصفية، والاعتقال، وكان أشهر النازحين قائد الجيش العقيد حسين عثمان عشال، انظموا إلى أقرانهم من أعضاء جبهة التحرير، ووصل عددهم إجمالًا إلى أكثر من 80,000 نازح جنوبي. دعوا إلى تحقيق الوحدة بالقوة، وهددوا أمن أصدقائهم بالأمس، وحظو بدعم كبير من قبل إحدى الدول المجاورة، والنظام الشمالي الذي خصص لهم 12 مقعدًا في المجلس الوطني، وكانت منطقتا الوديعة والبيضاء نقطة انطلاق عملياتهم العسكرية. اللافت في الأمر أنَّ هذا المجلس ألغى - حينها - شرعيًا وجود جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، واستبدلها بتسمية (المحافظات الجنوبية)!
بازدياد تدفق المقصيين من الشمال صوب الجنوب، والعكس أيضًا صحيح؛ استعرت المناوشات الحدودية، لترتفع وتيرتها بعد تحقيق المصالحة الوطنية بين الجمهوريين والإماميين مارس 1970م، وفي تعز حدث لقاء ودي بين محسن العيني ومحمد علي هيثم - رئيسا وزراء الشطرين - للتهدئة 25 نوفمبر 1970م، وتم الاتفاق على ست نقاط أساسية لكيفية البدء بحوار حقيقي وجاد، وتشكيل لجنة مُشتركة لإعداد وتحضير المشاريع الوحدوية المُزمع مُناقشتها.
نهاية ذات الشهر، وفي العيد الثالث للاستقلال، غير الجنوبيون اسم دولتهم من (جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية) إلى (جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية)؛ كدلالة على توجههم الماركسي، وقد غَرَّد حيدر العطاس - في وقت لاحق - خارج السرب، واعتبر أنَّ ذلك التغيير فرضه اليساريون الشماليون، وأنَّ الغرض منه إزالة هوية الدولة الجنوبية!
اعترض الوفد الشمالي المُشارك في ذلك الاحتفال على التسمية الجديدة، وانسحب مُغاضبًا، ليقوم في أواخر العام التالي وفد جنوبي برئاسة وزير الإعلام عبدالله الخامري، وعضوية نائب وزير الدفاع العقيد علي عنتر، ووزير التربية أنيس حسن يحيى، وغيرهم، بزيارة مدينة تعز (15 نوفمبر 1971م)، ولم يصل وأقرانه الشماليين إلى نتائج ترضي الجانبين.
مشايخ مُتحولون
المشايخ المُتحولون انتكاسة كُبرى اعترضت مَسار الثورة السبتمبرية المجيدة؛ ولولاهم ما استمر مخاضها لثمان سنوات، جمهوريون في النهار، ملكيون في الليل، وحين افتضح أمرهم؛ قاتلوا في صف من يدفع أكثر.
قيل - حينها - : إنَّ القيادة الجنوبية استدرجت 65 من أولئك المشايخ لفخ الارتزاق الجديد، جُلهم من خَولان، وفي مقصرة بيحان الحدودية، وعلى مَائدة غدائهم الأخير، تمت تصفيتهم جميعًا 21 فبراير 1972م، وكان من أبرز الضحايا الشيخ ناجي علي الغادر، والشيخ علي محمد الزايدي، والشيخ علي محمد حنتش، والشيخ صالح علي الهيال، والشيخ أحمد طالب طعيمان، والشيخ محمد صالح العرادة.
وعلى ذكر الشيخ الغادر، كبير أولئك المشايخ الذي قادهم إلى حتفهم، فقد عُين وكثير من أقرانه - بعد المصالحة الوطنية - أعضاء في مجلس الشورى، والتقى قبل مَقتله بأكثر من ثلاثة أشهر رئيس الوزراء محسن العيني، ورفض رغم ذلك التوجه إلى صنعاء. وهو كما عَاش السنوات الأخيرة من عُمره غادرًا، مَات مَغدورًا به!
في تَعليقه على تلك الحادثة، قال المقدم عبدالله الراعي أنَّ أولئك المشايخ كانوا على عَلاقة تكتيكية بالجنوب، وأنَّهم بِمُجرد أنْ اختلفوا مع السعودية؛ ربطوا ومن خِلال قاسم سلَّام علاقتهم بالعراق، في حين كانت عدن التي يأتي إليها الدعم نقطة الالتقاء، وأضاف الراعي: «أدرك الإخوان في الجنوب المخاطر على مستوى الشطرين؛ فرتبوا الكمين، حيث جَمعوا كل هؤلاء المشايخ في مُعسكر مُلغم، وفَجروه، وأبادوا كل من فيه.. وقطعت العلاقة مع بغداد، وكان قاسم سلَّام من المفروض أنْ يحضر.. لكن لحسن الحظ تأخر لساعة.. ونجا من الموت».
وأكد الراعي أنَّ تلك الحادثة نالت تِرحابًا مَعنويًا ونفسيًا لدى كل الأوساط في الشمال، واتهم - في المقابل - الإعلامي محسن الجبري بتأجيج الموقف، والأخير هرب إلى عدن بعد حركة 5 نوفمبر 1967م، واستغل - كما أفاد الراعي - تلك الحادثة للهجوم على المشايخ، وذلك عبر بَرنامج كان يُقدمه من إذاعة عدن، وقال في مُجمل تهديده: «اليوم يوم الغادر، وغدًا الأحمر والأخضر»!
وأكمل الراعي ذلك المشهد بقوله: «هنا استفز المشايخ، وحسبوا حساباتهم، وبدأوا باتخاذ مَواقف مُغايرة، وحاول القاضي الإرياني أنْ يطمئنهم.. وأكد لهم بأنَّ هذا التخوف لن يحدث، وقام بالاتصال مع الإخوان في الجنوب، وكلفني بنقل رسالة إلى الرئيس سالم ربيع علي، والتقيت به وبعبدالفتاح إسماعيل، وفعلًا تم إيقاف محسن الجبري من الحديث عن هذا الموضوع نهائيًا».
لم يدن الرئيس الإرياني الحادث؛ بل ألقى خطابًا تهديئيًا، قال فيه: «فليأتِ الأخ سالم ربيع علي إلى صنعاء رئيسًا لمجلسنا الجمهوري، لنكون حكومة واحدة، وليأخذ إخواننا في الجنوب كل ما يشتهون من مناصب في حكومة الدولة الواحدة، حيث أنَّ المهم أن نصبح دولة واحدة»، ثم عاد فاستدرك: «لكنهم يعتذرون عن الوحدة؛ تارة باختلاف المنهج السياسي والاقتصادي، وتارة لعدم توفر الظروف الموضوعية للوحدة، وأحيانًا بأنَّ لهم برنامجًا ثوريًا خاصًا..».
وهكذا، وبين الخطاب والخطاب المضاد برزت نبرة استعطاف الجماهير، وارتفعت - خلال تلك الفترة - وتيرتها، وظلت بشعاراتها الجديدة البراقة مُستحوذة على المشهد.
حرب وحدوية!
أصر غالبية مشايخ المناطق الشمالية وبدعم من إحدى دول الجوار على الأخذ بالثأر، واتخذ مجلس الشورى قررًا بضرورة الوحدة بالسلم أو بالحرب. استغل الجنوبيون المقصيون ذلك؛ وأعلنوا بزعامة عبدالقوي مكاوي عن تأسيس (الجبهة الوطنية المتحدة)، ككيان موحد لـَّم شتاتهم جميعًا 3 سبتمبر 1972م، ودعوا بحماس إلى سرعة وحدة الشطرين بالوسائل السلمية أو الحربية، لتشتعل مطلع الشهر التالي الحرب الشاملة 2 أكتوبر 1972م، قتل فيها كثير من هؤلاء المقصيين، وقتل أيضا بعض أفراد القبائل الشمالية بنيران صديقة؛ فكان النصر جنوبي.
وعن تلك الحرب قال جار الله عُمر: « شنّ الهاربون من الجنوب إلى الشمال هُجومًا على الجنوب عن طريق قعطبة، ونشبت الحرب بين الجنوب والشمال.. وتمكّن المهاجمون من احتلال عشر قرى من مديرية الضالع، كان جيش الجنوب ضعيفًا لكنّه جيش ثورة، وكانت معنويّاته أعلى، وكانوا قد حصلوا على صواريخ الكاتيوشا ذات المدى القصير.. أرعب الكاتيوشا المتقدّمين بصوته الجديد، ودويّه المُزلزل، وانسحب المُهاجمون، وتمكّن الجيش الجنوبيّ بقيادة علي عنتر وآخرين من أنْ يحتلّوا مدينة قعطبة».
بعد يومين من اندلاع تلك الحرب الوحدوية، وقبل إعلان نتيجتها بـ 14 يومًا، اجتمع مجلس الشورى في صنعاء، وعبر أعضاؤه عن قلقهم من تطور تلك الأحداث، وأكدوا بحماس أنَّه لا يمكن لأي قوة على الأرض أن تقف أمام تحقيق الوحدة اليمنية، وصرح عبده نعمان عطاء - أحد أعضاء المجلس - لصحيفة (مأرب) الصادرة من مدينة تعز قائلًا: «وبعد تحليل للأسباب التي أوصلت الشعب اليمني إلى أنْ يقتل الأخ أخاه بدون مبرر، اللهم إلا تكريس الانفصالية حفاظًا على مراكز السلطة، والمطامع الحزبية بنظراتها الطفولية والحاقدة، التي تريد فرض أيدولوجيات لا تمت لواقع شعبنا العربي المسلم في اليمن بأي صلة، وبعد أنْ استعرض المجلس هذه الأسباب؛ قرر أنَّ الوحدة الفورية لشطري اليمن هي الحل الجذري الوحيد للقضاء على الحدود المصطنعة الانفصالية، وبالتالي تجنيب الشعب اليمني مآسي الحرب الأهلية وويلاتها..».
حدث ذلك بالتزامن مع عقد الحزب الديمقراطي الثوري (كيان المقصيين الشماليين في الجنوب) مؤتمره الثاني في مدينة زنجبار، وهو المؤتمر الذي خرج بعدة أهداف، أهمها: «تحقيق الوحدة اليمنية بمنظور وطني ديمقراطي، وإسقاط السلطة في شمال الوطن».
قبضة حديدية
استمرارًا لمساعيها في التهدئة، عملت الجامعة العربية، وعددٌ من الدول العربية (منها الكويت، والجزائر، ومصر، وسوريا) على رأب الصدع، وجمعت بعد 26 يومًا من استعار المواجهات بين رئيسا وزراء الشطرين علي ناصر محمد، ومحسن العيني 28 أكتوبر 1972م؛ فكانت اتفاقية الوحدة، التقى الرئيسان الإرياني وسالمين أواخر الشهر التالي في ليبيا 26 نوفمبر 1972م، فكان بيان طرابلس. تم الاتفاق على مسمى الدولة، والعاصمة، والعلم، مع التأكيد على ضرورة الإسراع في تنفيذ اتفاقية القاهرة السابق توقيعها، والتي نصت على تحقيق الوحدة خلال عام واحد.
أفصحت القوى القبلية عن مُعارضتها العلنية لتلك الاتفاقية، دون طرح البديل، زادت ضغوطاتها على محسن العيني؛ فقدم الأخير نهاية ذات العام استقالته، حلَّ عبدالله أحمد الحجرى بدلًا عنه 6 يناير 1973م، فاتجهت الأمور صوب منحى انفصالي زاد الطين بلة.
قام رئيس مجلس الوزراء الجديد بإيقاف أعمال اللجنة المكلفة بمناقشة بنود الوحدة، ودعا إلى إقامتها على أسس إسلامية، وعنه قال حسن مكي (كان يشغل حينها نائب رئيس مجلس الوزراء للشؤون الاقتصادية): «وعلى خلاف سياسة التقارب والتفاوض مع الشطر الجنوبي التي كان الإرياني يحبذها للبحث عن حلول تجنب الطرفين النزاعات، وإراقة الدماء، واصل الحجري تصعيد لغة العداء، والمواجهة مع الجنوب»؛ لتتجدد بفعل ذلك المواجهات العسكرية في المناطق الوسطى، وبوتيرة أشد من سابقتها، ووصل عدد ضحاياها - بحسب ما أعلن عنه في حينه - ما يقارب 1,000 قتيل.
وأشار مكي إلى أنَّ الرئيس الإرياني كان حريصًا على تجنب الإسراف في سفك الدماء، في الوقت الذي أصر فيه القاضي الحجري على استخدام القبضة الحديدية في مُواجهة تلك الأعمال، دون تقدير للأرواح التي أزهقت، وللتكاليف الباهظة لتلك السياسة، ونُقل عنه أنَّه حين نصحه البعض أنْ يحتاط للأمر حتى لا يكون عرضة لانتقام ذوي القتلى في بلد ما تزال فيه قضايا الثأر حية، قال: «سأواصل ملاحقتهم حتى لو تفجر آخر لغم تحت عمامتي»، وبالفعل فقد بعد أربعة أعوام حياته، ثمنًا لموقفه المُتشدد ذاك.
استغل المجلس الجمهوري حادثة اغتيال الشيخ محمد علي عثمان (أحد أعضاء المجلس، وأحد المُعارضين للتواجد الشيوعي في الجنوب) 30 مايو 1973م، وأرسل في اليوم التالي وفدين رفيعي المستوى إلى عدد من الدول العربية، لشرح الموقف المتأزم، ولطلب الدعم السياسي، والمساندة العسكرية.
تعمق الخلاف بعد ذلك بين رئيس مجلس الشورى الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر وبين الرئيس الإرياني، غادر الأخير اليمن صوب سوريا، وهدد من هناك بتقديم استقالته، ليتراجع بعد مرور ثلاثة أشهر عن موقفه، غادر اللاذقية إلى الجزائر، والتقى على هامش قمة دول عدم الانحياز بالرئيس سالمين 4 سبتمبر 1973م، وذلك بعد يومين من اغتيال عبدالعزيز الحروي، وحَلَّت لغة تهيئة الأجواء بدلًا عن لغة التعجيل بقيام الوحدة اليمنية.
لتحريك مياه الوحدة الراكدة؛ قام سالمين بزيارته الأولى كرئيس جنوبي للشمال، استقبله الرئيس الإرياني بمنطقة الراهدة 10 نوفمبر 1973م، ودخلا سويا مدينة تعز، وسط ترحيب كبير من قبل الأهالي، وانطلقا في اليوم التالي صوب مدينة الحديدة، وأهم ما ميز لقاءهم الثالث والأخير الاتفاق على إيجاد صيغ مُشتركة على الصعيد الاقتصادي، وتذليل ما قد يعترض طريق اللجان المشتركة من مصاعب، وطرح الفيدرالية كخيار قابل للتطبيق؛ تعمق بسبب ذلك الخلاف بين الرئيس الإرياني ورئيس الوزراء عبدالله الحجري، فقدم الأخير استقالته مارس 1974م.
خُلاصة
اليمنيون عبر تاريخهم الطويل أكثر قابلية للفرقة والانقسام، لم يكادوا يتعافوا من صراعاتهم المناطقية، والمذهبية، والسلالية، حتى أطلت عليهم العصبية الحزبية بوجهها القبيح، وهكذا صار الجنوب يساريًا، والشمال يمينيًا، وصار لليسار يمين، ويسار انتهازي، ولليمين يسار، ويمين وسطي، استغل اللاعب الخارجي ذلك، ومن خلاله تسلل، ووقف مع الجميع ضد الجميع، وتخلص من أصدقائه قبل أعدائه، وجعل جغرافية اليمن مُلتهبة بالصراعات، والجراحات التي ما زالت غائرة.
قدَّم المُتحزبون المُتعصبون مَصلحة الحزب على مصلحة الوطن، وقدَّم المشايخ المُتسلطون مصلحة القبيلة على مصلحة الوطن، وبين هذا الفريق وذاك تاه الوطن، وغُيبت الذاتية اليمنية، واختزل مفهوم الوطن، والوطنية، والوحدة، بما يتفق وتوجه المُتصارعين، وظلت القبيلة والحزب مُتصدرتان للمشهد، مُتحكمتان بصناع القرار، والويل كل الويل لمن يحاول أن يتحرر من هيمنتهما.

*26 سبتمبر