من عظماء اليمن الكبير (أروى بنت احمد الصليحي)
تعد الملكة ( أروى ) من اعظم سلاطين الدولة الصليحية ان لم تكن اعظمهم . بلغت الدولة في عهدها اوج قوتها وعظمتها ، واسمها هو ( سيدة بنت احمد بن محمد بن القاسم بن المظفر بن علي بن يوسف بن عبد الجبار بن الحجاج الصليحية ) .. هكذا ساق نسبها الملك الاشرف في كتابه ( طرفة الاصحاب ) .
ومن ألقابها ( الحرة . السيدة الملكة . بلقيس الصغرى . أروى) . وقد اشتهرت بلقب ( أروى ) وأروى هو اسم ( أنثى ) الوعل المشهور في تاريخ اليمن ، ويدل على انها كانت صعبة المراس ، قادرة على اجتياز العقبات والمواقف الصعبة ،
ولدت هذه الملكة العظيمة في مدينة ( عدن ) بجنوب البلاد عام 444هجرية ، حيث كان والدها والياً على ( عدن ) من قبل الملك علي بن محمد الصليحي الذي كفلها وهي صغيرة لأن اباها مات في عدن تحت انقاض الدار التي انهدمت عليه .
نشأت في بيت المُلك برعاية الملك علي الصليحي وزوجته الملكة (أسماء بنت شهاب ) وضرب بها المثل بالعفاف والصلاح وكانت لؤلؤة القصر بدون منازع . وتعلمت الأدب وسائر المعارف فاصبحت كاتبة و اديبة عالمة بايام العرب واحوالها . وذات صباح اخبرت سيدتها الملكة ( اسماء بنت شهاب ) وقالت لها : يا مولاتي لقد رأيت في المنام ان بيدي مكنسة وأنا اكنس قصر مولانا ، فاسرعت الملكة أسماء واخبرت زوجها الملك علي بن محمد الصليحي بقصة رؤيا ( السيدة أروى ) ، فلما استمع اليها وكان ذكياً قارئاً عالماً قال لها : والله لكأني بتلك الحميراء قد كنست آل الصليحي وملكت أمرهم ، فاسرع الملك بتزويجها من ابنه ( المكرم ) واصدقها خراج ( عدن ) مدى حياتها ، وكان (مائة الف دينار ) وظل يحمل اليها حتى بعد وفاة زوجها المكرم فمرة يزيد ومرة ينقص حتى تغلب آل زريع على عدن فنقص النصف كما ذكر ذلك ابن الديبع في كتابه ( قرة العيون في أخبار اليمن الميمون ) والذي حققه المؤرخ الشهير محمد بن علي الاكوع . انجبت للمكرم اربعة اولاد ، وعندما مال الملك المكرم للسكون والراحة وقيل انه اصيب بمرض ، فوض امر المملكة الصليحية الى ( السيدة ) ، فادهشت الجميع بحنكتها وسياستها وضبطها للامور وساسة الناس بالعدل واللين ، بينما اتخذت الحزم والصرامة في المواضع التي تحتاج لذلك ، فاحبها الشعب وهابها السلاطين والملوك ، وهي صاحبة الرأي بنقل عاصمة الدولة من صنعاء الى ذي جبلة (جبلة ) ، وجبلة هو اسم يهوديٍ كان يصنع الفخار ويبيعها في الموضع الذي بُنيت فيه( دار العز اودار السلطانة ) فسميت المدينة باسمه وكان الذي اختط جبلة هو عبد الله بن محمد الصليحي . وبعد استقرار السيدة هناك اصبحت جبلة و دار العز قبلة للسلاطين والامراء وقادة الجيوش وزعماء القبائل ورسل الدول ، وكانت باب دار ( العز ) ملتقى الادباء والعلماء ويرتادها الشعراء من كل مكان يمدحون ( السلطانة ) ويمدحون صفاتها ، ومن ذلك قول ابن ( القم ) من قصيدة قال في مطلعها :
أعلمت ان من الرماح قدوداً
ومن الصفائح محاجراً ونهودا
الى ان قال :
لو كان يعبد للجلالة في الورى
بشرا لكانت ذلك المعبودا
أو كان في اثوابها بلقيس
ماهابت سليمانا ولا داوودا !
ادارت السيدة الدولة من هناك وجهزت الجيوش لمواجهة خصومها من بني نجاح والأئمة في شمال الشمال حتى الجأتهم الى الحصون وقمم الجبال ، ومن يخرج عليها من الامراء والسلاطين فذاع صيتها وهابها الجميع ، وكانت قبل مغادرتها صنعاء قد استعفت زوجها المكرم في نفسها وقالت له : ان امرأة تُراد للفراش لا تصلح لتدبير امر فدعني وما أنا بصدده !
في فصل الصيف كانت تتخذ من حصن ( التعكر ) الشهير مقرا لها . وعندما يبدأ الجو يميل الى البرودة تنزل الى المدينة ، وبعدها ترتحل الى مدينة ( عدن ) فتقيم فيها وتدير الدولة من هناك وكانت لها بمثابة عاصمة ( شتوية ) . عندما توفي زوجها الملك المكرم سنة 484هجرية ، ازدادت المهمة عليها فقامت ليلاً ونهارا من اجل رفاهية الشعب وتوطيد اركان الدولة ، وكان الملك المكرم قبل وفاته قد اسند الوصية حسب ما يقتضيه ( المذهب الاسماعيلي ) الى الأمير الشهير ( أبي حمير سبأ بن احمد بن المظفر الصليحي ) الذي كان يقيم في حصن ( اشيح ) الواقع في بلاد آنس .. وقد اراد الأمير سبأ الزواج من ( السيدة الحرة ) فبعث لها عدة رسل ولكنها رفضت ذلك ، فجمع جيشاً وتوجه الى ذي جبلة ، فجمعت الملكة اكثر منه ، فالتقى الجيشان بالقرب من جبلة ودارت معارك هناك استمرت لايام وكان النصر فيها لجيش الملكة ، فجاء من نصحه انه اذا اراد الزواج من الملكة فعليه مكاتبة ( المستنصر بالله الفاطمي ) في مصر وهو الخليفة الفاطمي الثامن والإمام الثامن عشر في سلسلة أئمة الشيعة الاسماعيلية ، والذي ارسل لها امرا بالزواج من الامير سبأ . ولما وصل لها كتاب ( المستنصر ) وقرأت ما فيه قالت امام الجميع : (( امر مولانا مجاب ولن اقول في امري ( يا أيها الملأ افتوني في أمري ) ، واما انت يا أبن الأصبهاني ( احد الرسولين من الامير سبأ الى المستنصر ) فو الله ما جئت مولانا من سبأ بنبأ يقين ، ولقد حرفتم القول عن موضعه وسولت لكم أنفسكم امراً فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون )) .. ماهذا الخطاب وهذا الاستشهاد وهذه البلاغة ايتها الملكة العظيمة !
بعد ان تم عقد الزواج وكان صداقها مائة الف دينار عيناً وخمسون الف من اصناف التحف والطيب والكساوي المختلفة ، سار اليها الامير سبأ مع خلق كثير من حصنة في آنس الى ذي جبلة ، وقد اشترطت عليه (الحرة ) ان لا يطلب مقابلتها الا بعد ان تأذن له بذلك وتقوم بواجب الضيافة نحوه فوافق على ذلك ، وخيم خارج المدينة شهرا كاملا والضيافات تخرج له ولعسكره كل يوم ، وانفقت على عسكره ضعف ما قدمه من المهر ، فبهت الامير سبأ من هذه الهمة العالية وحقر نفسه وندم على خطبتها ، فارسل لها ذات ليلة يستأذنها في الدخول فاذنت له فاجتمع بها ساعة من الزمن ولما طلع الفجر امر بضرب الطبول للرحيل ولم يجتمعا بعدها ، وقد توفي سنة 492هجرية في حصن ( اشيح ) بمنطقة آنس التابعة الآن لمحافظة ذمار ، وكان الامير سبأ شهماً كريماً فارسا يقال انه لم يشرب الخمر قط ،
توفيت الملكة اروى عام 532 هجرية بعمر ( 88 سنة) وتم دفنها في جبلة ، رحلت وقد خلفت العديد من المفاخر والمحاسن والمبرات ما يجعل التاريخ يقف امامها اعجابا وتخليدا ، بنت المدارس وشجعت على العلم ، واوقفت الاوقاف لطلبة العلم ، اجرت الماء بالسواقي واوصلته الى العديد من المساجد ، قامت بتوسعة الجامع الكبير في صنعاء ، وبنت المساجد ، قامت بنقل السكان من بعض المناطق الموبوءة وبنت لهم مساكن في اماكن اخرى ، عبّدت الطرق وذللتها حتى للحيوانات واوقفت لها الاوقاف ولا زالت ( صلبة السيدة ) في اب حتى الان ، قامت ببناء دور للايتام واجرت لهم المعونة ، ومن محاسنها تخفيف (الضرائب ) عن الرعية بل واعفائهم ايام القحط فقد كانت عطوفة على شعبها كما تقول كل كتب التاريخ ، ومن مزايا عصرها التسامح المذهبي ، لقد حكمت بدهاء وحسن ادارة وجمعت ما بين الحزم واللين ، فاحبها الناس وبكوا على فراقها ، نعتها صنعاء وبكتها عدن ، وصرخ لفراقها حصن التعكر ، ولو سارت الحصون في جنازة لما ترددا حصنا التعكر وحب من السير في جنازتها ، وقد وصفها المؤرخ الشهير محمد بن علي الاكوع في تحقيقه لكتاب قرة العيون في اخبار اليمن الميمون لابن الديبع بقوله (( انها ربة التاج والجمال وصاحبة القلم الذي يقوم مقام الجحفل الجرار ، ذات العظمة الباذخة والعزة الشامخة والمجد الذي لا يزال على مر الأيام والدهور يرتل آيات اعمالها المعجزات في خشوع وقداسة ، كافلة المؤمنين وسيدة ملوك اليمن الميامين بلقيس الصغرى غوث الضعفاء والايتام رحمها الله تعالى )) ، رحمك الله ايتها الملكة اليمنية العظيمة ، ها نحن نتذكرك ونذكر مفاخرك بعدما يقرب من الف عام على رحيلك ، سلام الله عليك يصلك الى مرقدك في مدينة جبلة ، .. نلتقيكم ان شاء الله مع حلقة اخرى من ( عظماء اليمن الكبير).