‘‘يا سيّدي’’ .. الإنسان في منظور الكهنوت!

توضيح:
لقد كرم الله الإنسان وجعله محور الخلائق، وفرض بينهم المساواة في الحقوق والواجبات دون تفريق أو مفاضلة بين جنس ولون وشعب وقبيلة على أخرى، كما جاء في القرآن الكريم: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].
كان هذا التقرير الإلهي من أهم ركائز الإسلام التي أدخلت الناس في دين الله أفواجًا، وقد نهى النبيُّ ﷺ الصحابةَ عن قولهم: "أنت سيدنا"، بأن قال: "إنما السيد الله"، وذلك حتى لا يجرهم هذا الأمر إلى الغلو والتمييز العنصري، فإذا كان نهى أن يقال له سيد فكيف بمن بعده من قومه؟!، بل وعنه في حجة الوداع، كما روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناسُ إنَّ ربَّكم واحدٌ، وإن أباكم واحدٌ، ألا لا فضلَ لعربيٍّ على عجميٍّ، ولا لعجميٍّ على عربيٍّ، ولا لأحمرَ على أسودَ، ولا لأسودَ على أحمرَ إلا بالتقوى, إنَّ أكرمَكم عند اللهِ أتقاكُم، ألا هل بلَّغتُ؟ قالوا: بلى يا رسولَ اللهِ قال: فيُبَلِّغُ الشاهدُ الغائبَ" صححه الألباني.
يأتي الحديث هنا عن الكهنوت باعتباره أسلوبًا مارسه بعض الحاكمين في فترات من تاريخ اليمن كانوا يسمون أنفسهم بالأئمة, قاموا خلاله بتقسيم الناس إلى طبقات، وبدأت بينهم المفاضلة العنصرية على أساس النسب الهاشمي، وقد مردوا خلال حكمهم -باسم الدين- على تكريس ألفاظ ومصطلحات للتفرقة بينهم وبين أتباعهم, وألزموهم العمل بها على سبيل التبجيل والتفضيل والتعظيم والتقديس، ومن ضمن هذه المصطلحات والألفاظ مناداتهم بـ"يا سيدي" على أساس التسيد والعلو والترفع والتمييز عن بقية الناس، وكأن غيرهم من الناس عبيد لا يجوز مساواتهم بالهاشميين.
إن من يراجع كتب الكهنوت الإمامي في اليمن يجد أنها تنضح بكثير من هذه المصطلحات العنصرية التي تفرق بين الناس، حتى إن بعضهم راح يؤصل لها بأن فرق بين الهاشميين أنفسهم، بل بين أبناء علي وفاطمة بأن جعل مصطلح (الشريف) للحسنيين، و(السيد) للحسينيين!!
بعد ثورة السادس والعشرين من سبتمبر المباركة اختفت كثير من هذه المصطلحات وكادت تندثر، وحتى لا تختفي من ثقافة الناس كرسوا لها الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وسربوها إلى أناشيدهم وموشحاتهم وأمثالهم، كقولهم: "ياسيدي وعيني"، و"السيد المحترم" في ديباجة رسائلهم، وغيرها من الوسائل.
واستمر الأمر بشدة بعد الانقلاب الحوثي على الدولة حيث تم إعادتها بوقاحة في مخاطباتهم بين الناس، وألزموا الجميع في مناطق سيطرتهم بالتزامها.
مواقف عشتها:
في موسم الحج لعام 2016، وفي مخيم منى كان هناك بعض الشباب من محافظتي حجة وعمران، وأحدهم يحاول أن يكون خطيبًا ومثقفًا يتحدث بشكل مقزز عن هذه المصطلحات في أوساط البعثة اليمنية للحج, وكان يصرخ بأعلى صوته لرجل من بني جحاف مشرفًا في إحدى الحملات: "ياسِيدي (عبدو)، ياسِيدي"، وإذا بنا ننصدم, وأيضًا الناس من عدد من الجنسيات العربية يتفاجأون أن تتم المناداة بهذه الطريقة في مخيمات الحجاج، وهي الثقافة الموروثة لديهم من أيام الإمامة البائدة، ويتم إعادة تكريسها في المجتمع اليوم، لم نسمعها من قبل في حياتنا!
يتحدث لي صديق عزيز من منطقة الأهنوم من محافظة عمران، أن رجلاً (هاشميًا) تزوج امرأة من إحدى قبائل المنطقة، وبينهم التمييز العنصري شائع وكبير، وإذا بالمرأة تنجب بنتًا، ولما كبرت كانت الأم تنادي ابنتها بـ"ياسيدتي"!، سألت الصديق علها مداعبة ومزحة بين الأم وابنتها، فقال: "ليس الأمر كما تتصور..! في بلادنا هذا الأمر شائع بل وملزمة الأم غصبًا عنها أن تنادي ابنتها بهذا المصطلح"؛ لأن الأم من القبائل والبنت هاشمية كأبيها!!
تكريس وتقديس:
يحاول الكهنوت الجديد المتمثل في الحوثيين تكريس هذا الخطاب "يا سيدي" اليوم بين الناس، ويكثرون من استعماله في كلامهم لبعض، ويعتبر دليلًا لديهم على ولاء الآخرين بما من شأنه إضفاء نوع من هالة التقديس والتعظيم لهم، فهم يرون أنفسهم أسياداً بأمر الله -كما يقول كثير من علمائهم سواء في موروثهم وكتبهم أو في محاضراتهم التي تملأ وسائل التواصل الاجتماعي- وأما الإنسان الآخر فليس في منظورهم إلا ناقصًا أو عبدًا أو سُخرة, أو أي معنى قد يتبادر إلى ذهنك بناءً على هاتين الكلمتين "يا سيدي"، ويتكرر لفظ "سيدي ومولاي" في خطاباتهم كلها كما لم يسمع بها اليمنيون من قبل، وتعج بذلك وسائل التواصل الاجتماعي ومراسلاتهم وديباجات الخطابات والتعميمات والقرارات، بل قد تستغرب أن وزيرًا أو قائدًا عسكريًا يخاطب مشرفًا أصغر منه -أو شخصًا من هؤلاء الذين يعتبرون أنفسهم مشرفين ومقدسين- ويناديه بهذه الكلمة، حتى صارت ظاهرة مقززة بين المواطنين أن يتم تكريس هذا المصطلح العنصري للقلة القليلة من الأكثرية الكاثرة في الشعب اليمني.
ولقد وصل الذل بالناس في زمن الإمامة على تمييز كل شخص، وكرسوا الطبقية لأجل أن يتسيدوا الجميع كثقافة، سعوا إلى التأصيل الديني لها وإكسابها الأهمية الكبيرة في المناداة والسلوك بينهم، في حين أن ميزان الله هو التقوى : (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) و"كلكم لآدم وأدم من تراب"، وكذلك العمل الصالح.
وبذلك ورد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في صحيح مسلم قوله: "من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه" , وقال: "يا بني عبد المطلب لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم"، وحينما عيّر أبو ذر بلالًا - رضي الله عنهما- زجره الرسول - صلى الله عليه وسلم- وقال له: "إنك امرؤ فيك جاهلية"!
ورغم ما ورد في كتاب الله وورد عن رسوله - صلى الله عليه وسلم- ورغم ما ترفضه الفطرة السليمة للإنسان السوي الذي يؤمن بقيمته وكرامته، إلا أن البعض انحدر إلى هذا المنحدر الخطير الذي أرادته لهم الكهنوتية الإمامية الأنانية، وصار كثير من المواطنين - على اختلاف فئاتهم وأعمارهم- مشتركين فيها، ولو رفض الناس مثل هذه المفاهيم ودحضوها من ثقافتهم لما وُجد من يستعبدهم أو يمارس المهانة والكهانة في أوساطهم، إذ الواجب عليهم الوعي والرفض المطلق لهذا السلوك العنصري، كما تصدى له الرئيس اليمني الأسبق القاضي عبد الرحمن الإرياني بقوله في إحدى قصائده:
ليس في الدين سيد ومسود
فاقرؤوه وحققوا قرآنه
إن دين الاسلام دين التساوي
ليس فيه تعاظم واستهانة
لا تقولوا سيدي لشخص ومن
ينطق بها فاقطعوا بحد لسانه
إنما السيد الإله، وكل النــ ناس
-حقًا- عياله في مكانه
قد خُلقتم ياقوم في الكون
أحراراً ولستم للهاشمي أقيانه...
الظهور والانتشار:
كان أول ظهور لهذا المصطلح، على أساس التمييز السلالي، في القرن الثالث الهجري، بعدما بدأت النظرية الإمامية في الانتشار في الأقطار، حيث حاول الكهنة من الإماميين في البداية توزيع الناس إلى طبقات؛ فجعلوهم القاضي والقبيلي والشيخ والمزارع والمثقف والجزار وأصحاب الخمس وأصحاب الصنائع المختلفة، فقسموا المجتمع إلى فئات وطبقات؛ تقل قيمتها من طبقة لأخرى بناءً على مقاييسهم، واعتبروا أنفسهم سادة القوم ولا يتقدمهم أحد.
فللهاشمي رأس الديوان، وله خمس المال، وله عيون الأرض، وإليه تجبى المنح والعطايا من السمن والعسل والبيض والأجبان، وهو الطبيب والعالم والمتعلم والقارئ والمفسر، وهو الولي والوالي الذي يجب أن يستأذن في كل شيء، وهو التاجر الذي لا يتقدمه أحد ولا يجوز أن يتجاوزه في الغنى إنسان، وله القول الفصل في كل شيء، وكان ذلك هو أبرز الأهداف من وراء ممارسة هذه الكهانة؛ يخنصرها جميعًا التسلط على رقاب الناس وأموالهم, والتسيد عليهم في أمور دينهم ودنياهم.
وهكذا عملوا على تقسيم المجتمع اليمني إلى فئات مختلفة، تحقر من شأن الإنسان وتستبيح كرامته وآدميته, وتتعامل معه بعنصرية مقيتة؛ تلك العنصرية التي بدأها إبليس مع آدم منذ خلقته الأولى حينما أمره ربه بالسجود له كشأن بقية الملائكة فرفض وقال: {أنا خير منه} [الأعراف: 12].
وقد رفض الأئمة مساواتهم بالناس، بل وألفوا لذلك نصوصًا ونسبوها للنبي -صلى الله عليه وسلم- كأحاديث، وحاشاه -صلى الله عليه وسلم- أن يكون كذلك، وهو الذي كان يهدئ من روع أعرابي ويقول له: "إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد في مكة...".
فهذا عبدالله بن حمزة يقول في رسالة له لشريف مكة قتادة بن إدريس: "إن الأمة إن عدلت عنا وساوت بيننا وبين غيرنا فهي لنا ظالمة، وبخلافها لنا آثمة. يقول جدنا صلوات الله عليه وعلى آله: قدموهم ولا تقّدَّموهم، وتعلموا منهم ولا تعلموهم، ولا تخالفوهم فتضلوا، ولا تشتموهم فتكفروا..!!"( السيرة المنصورية: صـ70).
وعلى أساس من عدم المساواة كان كل شيء ملكًا للأئمة من بني هاشم، كما ينسبون لأنفسهم ولأتباعهم، فكانوا هم المتميزين مالًا وجاهًا وسلطة، وغيرهم عمال سخرة وعبيداً لهم، طبقة فقيرة كادحة تعمل ليل نهار لإسعادهم؛ فدمروا البلد إنسانه وبنيانه على مختلف المستويات، وتسلطوا حتى على عقول الناس؛ باعتبار أن العلم لا يأتي إلا من طريق الأئمة لاعتبارهم (آل البيت) الذي يأتي العلم عن طريقهم فقط، وما دون علومهم علوم، ولا يعترفون بأي علم لا يأتي من قبلهم.
كرس الأئمة العبودية لهم من دون الله وأشركوا أنفسهم إلى جانبه، وخاصة إمامهم الرسي الذي ابتدعها في نظريته، واخترع لذلك نصوصًا جعلها من الدين، حيث جاء في رسائله إلى قبائل صعدة لمناصرته، كما ورد في كتاب (مجموع رسائل الإمام الهادي: صـ509): قوله: "فمن كان كذلك من ذرية الحسن والحسين، فهو إمام جميع المسلمين، لا يسعهم عصيانه، ولا يحل لهم خذلانه، بل تجب عليهم طاعته وموالاته، ويعذب الله من خذله، ويثيب من نصره، ولم يعذر أي متخلف عن نصرته ووجوب اتباعه وتقديم نفسه في سبيله....... إلخ".
ومن هنا كانت البداية التي لا تزال تستمرئ انتشارها جماعة الكهنوت الحوثي اليوم في الشواهد حتى الآن، ولا غرابة أن ترى أحد المواطنين في السبعين يسجد ليقبل قدم صنم عبد الملك الحوثي باعتباره سيده ومولاه, على مرأى ومسمع من الجميع, بل ويوثقها وينشرها، لا عجب فهذه الثقافة من تلك، وما ذلك إلا استمراراً على نهج أسلافهم الذي يجسده أحد فقهاء حراز في قصيدة إلى الكاهن عبدالله بن حمزة؛ إذ يقول فيها:
أيا راكبًا بلغ على سخطة النوى
كتابي إلى ربع الإمامة واقصدِ
فإن أنت قابلت الإمام فحيِّه
بأزكى تحيات الإله ومجد
وقَبِّل بحق الله أخمص رجله
إذا ما بدا في الحال نحوك واسجدِ
(السيرة المنصورية: ج2/صـ556).
خلاصة القول:
إتضح مما سبق كيف أن الإنسان، في منظور الكهنوت الإمامي قديمًا وحديثًا، ليس إلا تابعًا لهم، يرونه كرؤية اليهود والنازيين في تعاملهم مع غيرهم؛ طبقةً تحت البشر أو دونهم في القيمة والمكانة، إلا أنهم تفوقوا على أولئك بالإفراط في استغلال من تحت أيديهم, فحيثما حلوا أهلكوا الحرث والعقل والنسل, وحرفوا الدين، ومسخوا الهوية، وقللوا من شأن الناس بناء على النسب, وهتكوا العرض، واستحلوا أموال الناس تحت مسميات الخمس والعطايا والجبايات وغيرها، وتلك هي الضروريات الخمس التي حفظها الدين, في حين كان يجب عليهم حفظها من موقع سلطانهم وحكمهم، إلا أنهم فعلوا العكس تمامًا، بل وهي الكليات التي اتفقت الأديان السماوية وأصحاب العقول السليمة على احترامها وصيانتها، وقد أجمع أنبياء الله تعالى ورسله من عهد آدم -عليه السلام- إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- على وجوب حفظها، إلا هؤلاء فنماذجهم وشواهد مصائبهم في حق الناس -ممن لا ينتمون لهم ويرفضون فكرهم وشرهم- كثيرة يمتلئ بها الوطن العربي ابتداءً من العراق وسورية ولبنان وانتهاءً باليمن، فجرائمهم وانتهاكاتهم في حق من يحكمونهم لا حدود لبشاعتها وفظاعتها ومآسيها، والكارثة أنها تنبع من قناعات وتأصيلات ما أنزل الله بها من سلطان؛ فالتقسيم الطبقي والسلالي عند هؤلاء هو للحصول على امتيازات اجتماعية من التسيد وكذلك لنهب الأموال، ولا أدري ما الذي يعنيه ويجنيه التابعون وقد فقدوا الكرامة في حضرة كهنوت الإمامة على امتداد الزمان والمكان؛ إذ لا أحد سيدٌ على أحد إلا الله وحده لا شريك له، وفي ظل هذا الوضع ومع انتشار هذه التصرفات وجب التوعية والتنبيه, ومن لم يعلم أو يقرأ بما أحدثه كهنة الإمامة السابقة فلينظر اليوم بما يفعله كهنة الإمامة الجديدة في اليمن وإيران والعراق ولبنان وسورية، وسيجد كل إجابات تساؤلاته.
*مجلة جرهم