السبت 1 مارس 2025 06:10 مـ 2 رمضان 1446 هـ
االمشهد اليمني
Embedded Image
×

هل يدفع ترامب أوروبا الى سور الصين؟!

السبت 1 مارس 2025 04:23 مـ 2 رمضان 1446 هـ

المشهد الذي شهدته أروقة البيت الأبيض لم يكن مجرد لقاء دبلوماسي بين رئيسين، بل كان استعراضًا مقصودًا للقوة، محاولة متعمدة لإظهار الهيمنة، ورسالة واضحة ليس فقط لأوكرانيا، ولكن لأوروبا بأكملها. ترامب، الذي يجيد اللعب في ساحة السياسة بأسلوب المصارعة الاستعراضية، بدا وكأنه يوجه صفعة سياسية لحلفائه، مجبرًا إياهم على الاعتراف بأن كل شيء في واشنطن يُباع ويُشترى، بما في ذلك الأمن والاستقرار. كان زيلينسكي في موقف لا يُحسد عليه، لكنه لم يكن الضحية السهلة التي أرادها ترامب، حيث رد عليه بحدة وسخرية أظهرت أن كييف لم تعد تنظر إلى الدعم الأمريكي كمنحة سخية، بل كجزء من لعبة دولية تقودها المصالح.

لكن أبعد من هذا المشهد، كان هناك درس استراتيجي أكثر أهمية يتكشف أمام أوروبا: إذا كان هذا ما يفعله ترامب بحليف في حالة حرب، فماذا سيفعل بشركائه الأوروبيين الذين يعتمدون على واشنطن في أمنهم واقتصادهم؟ لم يكن ترامب يهدد أوكرانيا فقط، بل كان يضع أوروبا أمام اختبار حقيقي: إما أن تستمر في التبعية، وإما أن تبدأ في بناء استقلالها الاستراتيجي، اقتصاديًا وعسكريًا.

لقد حذر بعض القادة والمفكرين الأوروبيين منذ سنوات من أن الاعتماد المفرط على الولايات المتحدة يجعل أوروبا عرضة للابتزاز السياسي والاقتصادي. الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قالها صراحة من قبل: “يجب أن نبني استقلالية استراتيجية لأوروبا حتى لا نبقى رهائن لقرارات البيت الأبيض.” المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل، التي كانت تعرف جيدًا كيف تتعامل مع رؤساء أمريكا المتقلبين، أشارت في أكثر من مناسبة إلى أن أوروبا لا تستطيع إلى الأبد الاعتماد على واشنطن لحماية أمنها. لكن هذه التحذيرات، التي بدت للبعض وكأنها تحذيرات مبكرة لا ضرورة لها، أصبحت الآن واقعًا يفرض نفسه.

اقتصاديًا، يبدو أن أوروبا باتت تدرك أن عليها تنويع شراكاتها التجارية، وتقليل الاعتماد على السوق الأمريكية. أحد الخيارات الأكثر وضوحًا هو تعزيز العلاقات مع الصين، التي أصبحت بالفعل الشريك التجاري الأكبر للعديد من الدول الأوروبية. السياسات التي ينتهجها ترامب حاليًا، والتي تقوم على مبدأ “أمريكا أولًا، وعلى الآخرين دفع الثمن”، قد تكون الدافع الذي يجبر أوروبا على إعادة رسم استراتيجياتها الاقتصادية والسياسية، بل وحتى العسكرية. فإذا استمرت الولايات المتحدة في التعامل مع حلفائها بأسلوب الإذلال والضغط، فقد تجد أوروبا نفسها مضطرة إلى اتخاذ خطوات لم تكن مطروحة منذ نهاية الحرب الباردة، من بينها تعزيز شراكاتها الاقتصادية مع الصين، والتوجه نحو تهدئة التوتر مع روسيا، في محاولة لاستعادة استقلاليتها الاستراتيجية وتقليل تبعيتها لواشنطن.

التقارب الاوروبي مع الصين: فرصة اقتصادية وسياسية على ترامب ان لا يتجاهلها

تعاملت أوروبا طويلًا بحذر مع الصين، ومع إدراكها أنها تمثل شريكًا اقتصاديًا بالغ الأهمية، لكنها في الوقت ذاته منافس جيوسياسي معقد. غير أن الضغوط الأمريكية المتزايدة قد تدفع القارة الأوروبية إلى تعميق علاقتها ببكين، ليس فقط لتعزيز مصالحها الاقتصادية، بل أيضًا كوسيلة ضغط على واشنطن، مما سيجعل قدرة ترامب على ابتزازها محدودة.

تعزيز التعاون مع الصين سيتيح لأوروبا فتح أسواق جديدة، وتخفيف اعتمادها على الاقتصاد الأمريكي. الصين، التي تعد بالفعل الشريك التجاري الأكبر لألمانيا، تقدم فرصًا ضخمة في مجالات التكنولوجيا المتقدمة، السيارات الكهربائية، والصناعات الدقيقة. بناء شراكة اقتصادية أقوى مع بكين قد يمنح أوروبا فرصة لاستعادة بعض نفوذها الذي تراجع عالميًا، كما أنه قد يقلل من سيطرة الدولار الأمريكي على النظام المالي العالمي، وهو ما سيعزز من دور اليورو كمنافس جدي في الأسواق الدولية.

في مجال التكنولوجيا، لا تزال الشركات الأمريكية تسيطر على الصناعات المتقدمة في أوروبا، لكن الصين باتت لاعبًا رئيسيًا في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، أشباه الموصلات، وشبكات 5G و6G. إذا قررت أوروبا تقليل اعتمادها على التكنولوجيا الأمريكية والتوجه تدريجيًا نحو الابتكارات الصينية، فقد يؤدي ذلك إلى تقليص النفوذ الأمريكي على اقتصاد القارة، بل وحتى أمنها، وهو أمر لن تقبله الدولة العميقة في امريكا، كل ذلك سيمنح أوروبا استقلالية أكبر في قراراتها المستقبلية.

الهيمنة الأمريكية على الأسواق المالية تمنح واشنطن قدرة هائلة على فرض العقوبات الاقتصادية ضد الدول الأخرى، لكن إذا بدأت أوروبا في التلويح بتسوية صفقاتها التجارية مع الصين باليورو واليوان بدلاً من الدولار، فإن امريكا تعرف بأنه اذا نفذ سيحد من تأثير العقوبات الأمريكية على الاقتصاد الأوروبي، ويمنح الحكومات الأوروبية مرونة أكبر في قراراتها السياسية والتجارية.

كما أن الاستثمارات الصينية الضخمة في البنية التحتية الأوروبية، وخاصة في مشاريع القطارات فائقة السرعة، الطاقة المتجددة، وتكنولوجيا المدن الذكية، قد توفر للقارة فرصًا اقتصادية جديدة، وتقلل من حاجتها للاعتماد على التمويل الأمريكي. تعزيز التعاون في هذه المجالات لن يكون مجرد مكسب اقتصادي، بل خطوة استراتيجية تمنح أوروبا خيارات بديلة، وتجعلها أقل عرضة للضغوط الأمريكية في المستقبل.

لكن التحول الأكثر أهمية ليس اقتصاديًا فقط، بل عسكري أيضًا.

أوروبا بدأت تدرك أن عليها بناء قوة دفاعية مستقلة، وهو ما يفسر زيادة إنفاقها العسكري بشكل غير مسبوق في السنوات الأخيرة. ألمانيا، التي كانت تاريخيًا مترددة في رفع ميزانيتها الدفاعية، قررت تخصيص مئات المليارات من اليوروهات لتعزيز قواتها المسلحة وتحديث أنظمتها الدفاعية. فرنسا، التي تملك بالفعل قوة عسكرية نووية كبيرة، تضغط من أجل إنشاء منظومة دفاع أوروبي موحدة، تقلل من الاعتماد على الولايات المتحدة في إطار الناتو. حتى دول مثل بولندا والسويد بدأت في إعادة النظر في عقيدتها الدفاعية، وزيادة الاستثمارات في أنظمة الدفاع الجوي والصواريخ الحديثة.

الاتحاد الأوروبي بدأ أيضًا في مناقشة إنشاء صناعات عسكرية أكثر استقلالية، بحيث لا يكون مضطرًا لشراء الأسلحة والتقنيات العسكرية من أمريكا كلما احتاج إلى تعزيز دفاعاته. هناك حديث متزايد عن تطوير منظومة صاروخية أوروبية متكاملة، وإنشاء قوة ردع مشتركة قادرة على العمل خارج مظلة الناتو. هذه التحركات لا تعني أن أوروبا تريد قطع علاقتها الأمنية بأمريكا، لكنها رسالة واضحة بأن القارة لن تظل رهينة للمزاج السياسي في واشنطن.

أوروبا و روسيا

العلاقة مع روسيا بدورها قد تكون ساحة أخرى للمناورة الأوروبية. استمرار المواجهة مع موسكو يعني استمرار الاعتماد الأوروبي الكامل على واشنطن، لكن إذا وجدت أوروبا طرقًا لتخفيف التوتر مع الكرملين، فقد يكون ذلك مفتاحًا جديدًا لاستعادة استقلالية القرار الأوروبي. الحرب في أوكرانيا استنزفت موارد أوروبا وأثقلت اقتصاداتها، فيما تستفيد واشنطن من تصدير الغاز المسال بأسعار مرتفعة وبيع الأسلحة التي تضخ المليارات إلى مجمعها الصناعي العسكري. أوروبا ليست مضطرة للاستمرار في هذه المعادلة إذا كان بإمكانها إيجاد طرق أخرى للحفاظ على أمنها دون الاعتماد الكامل على الدعم الأمريكي.

ترامب يظن أن بإمكانه فرض إرادته على الجميع، لكن إذا دفع الأمور إلى أقصى حد، فقد يجد نفسه أمام مشهد مختلف تمامًا. أوروبا، التي لطالما كانت الطرف الأضعف في معادلة القوة العالمية، قد تبدأ في إعادة رسم دورها، ليس فقط في مواجهة واشنطن، بل أيضًا في إعادة توجيه علاقاتها الاقتصادية والعسكرية بعيدًا عن النفوذ الأمريكي. إذا كان ترامب يعتقد أن بإمكانه معاملة أوروبا كما يعامل زيلينسكي، فقد تكون المفاجأة أكبر مما يتوقع. إذلال الحلفاء قد يكون استراتيجية ناجحة على المدى القصير، لكنه على المدى البعيد قد يؤدي إلى انهيار النظام الذي أبقى واشنطن في موقع القوة لعقود.

التاريخ يعلمنا أن القوى العظمى عندما تبدأ في التعامل مع حلفائها بازدراء، فإنها تضعف نفسها قبل أن تضعف الآخرين. ما يفعله ترامب اليوم لا يهدد فقط استقرار أوروبا، بل قد يؤدي إلى تغيير في ميزان القوة العالمي، حيث تجد أمريكا نفسها وحيدة في مواجهة عالم لم يعد يقبل أن يكون تحت سيطرتها المطلقة. إذا استمر هذا النهج، فقد يأتي اليوم الذي تدرك فيه واشنطن أنها لم تخسر نفوذها بسبب خصومها التقليديين، بل بسبب سياساتها قصيرة النظر التي دفعت أقرب شركائها للبحث عن بدائل.

في النهاية، ما يفعله ترامب ليس مجرد استعراض سياسي، بل هو اختبار لما إذا كانت أوروبا مستعدة للخروج من ظل الولايات المتحدة. قد يكون هدفه هو إجبار الحلفاء على تقديم المزيد من التنازلات، لكنه قد يجد نفسه في مواجهة واقع جديد لم يكن يتوقعه: قارة تبحث عن استقلالها الاستراتيجي، وتقيم تحالفات جديدة، وتعيد رسم خريطة القوى العالمية بطريقة لا تجعل أمريكا المركز الوحيد لها. إذا لم تدرك واشنطن أن اللعب بسياسة الإذلال قد يأتي بنتائج عكسية، فقد تجد نفسها في المستقبل تقاتل وحدها في مواجهة عالم لم يعد يدور حولها فقط.

* (المصدر أونلاين)