السعودية تُثبّت بوصلتها نحو فلسطين: فرصة لتوحيد الصف العربي وبناء استراتيجية حماية شاملة
![](https://media.almashhad-alyemeni.com/img/24/11/06/303818.webp)
اطلعتُ على بيان وزارة الخارجية السعودية الصادر في 5 فبراير 2025، والذي جاء ليعيد التأكيد على موقف المملكة الثابت من القضية الفلسطينية في ظل مرحلة دقيقة تمر بها المنطقة. البيان لم يكن مجرد إعلان دبلوماسي، بل جاء ليشكل رسالة سياسية واضحة في وقت تتسارع فيه تحولات كبرى، سواء على المستوى الإقليمي أو الدولي.
في جوهره، ارتكز البيان على ثلاثة محاور رئيسية: الأول هو تأكيد التزام السعودية بحل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، وفق قرارات الشرعية الدولية. الثاني هو إعادة التشديد على موقف المملكة الذي عبّرت عنه في مختلف القمم العربية والإسلامية بأن القدس الشرقية هي العاصمة الشرعية للدولة الفلسطينية، وضرورة إنهاء الاحتلال الإسرائيلي المستمر. أما المحور الثالث، فهو رفض المملكة القاطع لأي سياسات أو إجراءات إسرائيلية من شأنها المساس بحقوق الشعب الفلسطيني، سواء عبر الاستيطان أو التهجير أو أي محاولة لفرض واقع جديد، مؤكدةً أن السلام العادل والدائم لا يمكن أن يتحقق دون استعادة الفلسطينيين لحقوقهم التاريخية والمشروعة.
جاء هذا البيان في لحظة دقيقة من تاريخ المنطقة، حيث تتجه بعض الدول نحو تطبيع غير مشروط مع إسرائيل، بينما يعاني الفلسطينيون من تصعيد غير مسبوق في غزة والضفة الغربية. في هذا السياق، بدا أن السعودية تُدرك أن غياب موقف عربي قوي وواضح قد يفتح الباب أمام المزيد من التنازلات التي لا تخدم القضية الفلسطينية. فحين تتراجع القوى الإقليمية الكبرى عن لعب دورها التقليدي، مثل تراجع مصر وانكفاء إيران على أزماتها الداخلية، تصبح المملكة الطرف الأكثر قدرة على توجيه دفة الأحداث وملء الفراغ القيادي في المنطقة.
ما يميز البيان السعودي أنه لم يأتِ كرد فعل عابر على التطورات السياسية، بل كموقف مبدئي يعكس التزامًا طويل الأمد تجاه القضية الفلسطينية، وخاصة ملف القدس. فالقدس ليست مجرد مسألة دبلوماسية أو تفاوضية، بل تمثل بُعدًا حضاريًا وسياسيًا للعالم الإسلامي. إن تأكيد المملكة على أن القدس الشرقية هي العاصمة الشرعية لفلسطين يضع خطوطًا حمراء أمام أي محاولات مستقبلية لتغيير الوضع القانوني والديموغرافي للمدينة.
لا يمكن فهم البيان السعودي بمعزل عن السياق الدولي، وخاصة مع عودة دونالد ترامب إلى المشهد السياسي الأمريكي. تجربة ترامب الأولى كانت الأكثر انحيازًا لإسرائيل في التاريخ الأمريكي الحديث، حيث نقل السفارة إلى القدس، واعترف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان، وطرح "صفقة القرن" التي سعت لتصفية القضية الفلسطينية. عودة ترامب إلى الحكم تعني عودة هذه السياسات المتشددة، مما يتطلب استعدادًا عربيًا لمواجهتها بموقف موحد وصلب.
من هنا، يمكن قراءة البيان السعودي كموقف استباقي يوجه رسالة واضحة إلى إدارة ترامب الجديدة: أي محاولة لفرض حلول أحادية تتجاهل الحقوق الفلسطينية لن تجد قبولًا في العالم العربي. هذا الموقف لا يعكس فقط التزام السعودية بالقضية، بل يؤكد قدرتها على التأثير في مسار السياسات الإقليمية والدولية.
في ظل انقسامات عربية حادة وتراجع دور المؤسسات الإقليمية، يكتسب الموقف السعودي أهمية مضاعفة ، خاصة والمثير يعول علي موقف سياسي قوي يرتقي الي مستوي التضحيات التي قدمها شعب فلسطين ، فقد أصبحت القضية الفلسطينية تعاني من تراجع سياسي في أولويات بعض الدول العربية التي باتت ترى في التطبيع السريع مع إسرائيل مخرجًا لمشكلاتها الاقتصادية والسياسية. لكن المملكة، عبر بيانها، أوضحت أن أي تطبيع لا يمكن أن يكون على حساب الحقوق الفلسطينية، وأنه لا يمكن تحقيق سلام دائم دون معالجة جوهر القضية، وهو الاحتلال.
والاهم إن البيان استخدم لغة صريحة يحسب للدبلوماسية السعودية ، يدعم موقف الدولة العربية كمصر والاردن التي تتعرض لضغوط كبيرة من قبل ادارة ترامب ، ويشجعها لمقاومة الضغوط ، ورفضها ، فالسعودية تدرك أن التصعيد الإسرائيلي لن يتوقف، وأن المنطقة بحاجة إلى استراتيجية عربية جديدة لا تقتصر على الدعم الدبلوماسي فقط، بل تمتد إلى إعادة بناء موقف عربي موحد يتعامل مع القضية الفلسطينية كقضية أمن قومي عربي. من هنا، فإن البيان السعودي ليس مجرد موقف تقليدي، بل هو جزء من رؤية أشمل تحاول إعادة ترتيب أولويات المنطقة على أسس أكثر توازنًا.
ختامًا.. القضية الفلسطينية بوابة للأمن القومي العربي
إن الموقف السعودي القوي في البيان بات واضحًا في تأثيره العميق على مجريات الأحداث، لا سيما في قضية غزة والصراع الفلسطيني الإسرائيلي. ولعل ردة فعل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تكشف بجلاء هذا التأثير؛ إذ طالب السعودية باستقبال سكان غزة، بل وطرح فكرة إقامة دولة فلسطينية على أراضيها الواسعة، في محاولة منه لإلقاء عبء القضية الفلسطينية على المملكة، والتخلص من تداعيات عدوانه على القطاع. إن مجرد طرح هذا التصور من قبل نتنياهو يعكس إدراكه لثقل السعودية السياسي والدبلوماسي، ومحاولته تحييد دورها الفاعل في الدفاع عن الحقوق الفلسطينية، وإبعادها عن معادلة الضغط الدولي المتزايد على إسرائيل.
ولكن، ماذا يعني ذلك؟ إن هذا الطرح يكشف عن توجه إسرائيلي للهروب من استحقاقات الحل العادل للقضية الفلسطينية، عبر البحث عن مخارج بديلة تكرّس تهجير الفلسطينيين وتصفية قضيتهم. كما أنه يعكس حجم المأزق الإسرائيلي، الذي تدفعه للبحث عن خيارات غير واقعية، في ظل الفشل العسكري والسياسي في غزة، والصمود الفلسطيني المدعوم بمواقف عربية وإقليمية رافضة لأي حلول تُفضي إلى طمس الهوية الفلسطينية أو تفريغ الأرض من أهلها. في هذا السياق، يظهر أن القيادة السعودية، بمواقفها الواضحة والثابتة، باتت حجر الزاوية في أي حديث عن مستقبل القضية الفلسطينية، مما يفسر سعي إسرائيل إلى زعزعة هذا الدور أو توجيهه في اتجاه يخدم مصالحها.
إن التحديات التي تواجه القضية الفلسطينية اليوم لا تقتصر على سياسات الاحتلال الإسرائيلي، بل تمتد إلى طبيعة التعاطي العربي مع هذه القضية. وفي هذا السياق، يأتي الموقف السعودي ليعيد التأكيد على أن فلسطين ليست مجرد ملف دبلوماسي، بل هي بوابة لحماية الأمن القومي العربي، ومفتاح لاستعادة التوازن الإقليمي في مواجهة المشاريع التوسعية التي تستهدف المنطقة.
في الأخير اتمنى ان لا يكون البيان السعودي مجرد تصريح رسمي، بل هو خطوة جادة نحو إعادة توجيه البوصلة العربية نحو أولوياتها الاستراتيجية ، يعيدها الي الصدارة خاصة بعد سقوط نظام الطاغية في سوريا ، وتهاوي النفوذ الإيراني ، ففلسطين في هذه المرحلة إما أن تتحول الى قضية جامعة توحد العرب، أو أن يكون استمرار الانقسام هو الثمن الذي تدفعه الأمة كلها. والسؤال الذي يفرض نفسه اليوم: هل يكون هذا البيان بداية لمرحلة جديدة في التعاطي العربي مع القضية الفلسطينية، أم يظل مجرد موقف في مواجهة تيار دولي وإقليمي يسير في اتجاه آخر؟