مشوار عمر

أثناء وقوفي في شارع الستين بانتظار سيارة أجرة توقفت بجواري سيارة خصوصي ، في البداية ظننته أحد أصدقائي توقف ليوصلني ـ كثر الله خيره ـ لكن سائقها نزل وصافحني ثم فاجأني بقوله :
ــ تنتظر تاكسي يا أستاذ ؟
ـ أيوه .
ـ سأوصلك وحاسبني مثل التاكسي .
ركبت معه وأخبرته بوجهتي ، ولأن مشواري حينها كان طويلا ، وطال أكثر بسبب الزحام الذي يسبق رمضان عادة بدأت أتحدث معه لتمضية الوقت ، وجر الحديث بعضه حتى سألته عن أبيه وعمله ، لقد صعقت حين أخبرني وبكل هدوء أن والده يعمل في تجارة المخدرات .!
ــ أنت تمزح صح ؟!
سألته .
ـ أو قصدك أنه يبيع قات ؟
ـ أبي تاجر مخدرات فعلاً .
ــ أنت تتكلم جد ؟!
أوقف السيارة جانبا وفتح هاتفه وأراني صورة والده بجوار سيارة فخمة محاطاً بمرافقين.
قلت:
ـ مش كل واحد معه سيارة فخمة وحرس يتاجر في المخدرات .
وحينها أراني عدة صور لوالده بجوار عينات عدة من أكياس المخدرات ، ومبالغ مالية ضخمة ، وحقائب وأسلحة ، وعدة شوالات قات .
ــ ولماذا السلاح والقات بجوار المخدرات ؟
ضحك ساخراً وأجاب :
هي كلها منظومة واحدة .
ــ وبلا وعي سألته :
ــ طيب وأنت ... ؟
ـ قصدك لماذا لم أعمل معه ؟
أعاد تشغيل السيارة وتحركنا وبدأ يتحدث :
ــ ربما ستقول عني أنني غاوي فقر ، أنا كنت أقول : وماذا سيحدث لي؟ نحن فقط نسلم ونستلم ، لكن مقتل أخي في إطلاق نار من حرس الحدود السعودي جعلني أتوقف ، لقد قتلوه رغم أنه كان يخزن معهم دائماً في منفذ حرض ، ذات يوم وصلت لجنة من الرياض إلى المنفذ لترفع تقارير وتراقب العمل ، اللجنة وصلها بلاغ بوجود عملية تهريب قات ومخدرات فوجهت الدوريات هناك بمتابعة العملية والقبض على المهربين ، وحتى لا يتهم الضباط بالتواطؤ تحركوا بجدية ، كان أخي يقود صالون فيها بضاعة بمائة مليون ريال وأكثر ، وهنا قاطعته :
ــ مائة مليون ريال ؟
ــ أيوه المخدرات غالية جدا ، الكيس 200 جرام بعشرين ألف ريال سعودي .
حاول الهرب منهم لكنهم أطلقوا عليه الرصاص وقتل ، وصادروا السيارة بما فيها .
أراني صورته ، شاب في مقتبل العمر .
سالت دموعه وهو يروي :
ــ تصور أبي أنكر أن يكون له علم بعمل أخي ، وتبرأ منه أمام المشايخ والوجهاء في منطقتنا بعدما أذاعت وسائل إعلام سعودية مقتله في عملية تهريب مخدرات.!
أبي أمام الناس شيخ محترم يتاجر بالسلاح فقط ، لكن في الحقيقة يتاجر بكل شيء.!
لو تجلس معه مثقف جداً ويبهرك بطرحه ويقرأ كتب ، وفي رمضان يتوقف عن عمله ويتوب .
بعد مقتل أخي راجعت حساباتي ونصحتني أمي بالابتعاد عن الوالد وعمله ، باعت ذهبها وأعطتني قيمة السيارة ، لي فترة أحاول تغييرها إلى أجرة دون جدوى ، ما اشتغلت بها صرفتها ، أحياناً أتسلف قيمة البترول سلف ، بس تعرف : أنا مرتاح ، يعني مرتاح نفسيا ، متصالح مع ضميري .
ـ طيب ليش ما تنصح أبوك يترك هذا العمل ؟
ــ ما يستطيع يا أستاذ ، هذه عصابات دولية منظمة ، ضروري قرار استثنائي من الإدارة بالخارج .
وأضاف:
ـ أبي أصلا ما دخل المنظمة إلا بعد وساطات وضمانات من شخصيات كبيرة ، وبعد اختبارات مكثفة ، ودروات تدريبية ووو ألخ .
وتساءلت في نفسي:
ــ هل هذا الولد ساذج وعلى نياته حتى يخبرني بكل هذه الأسرار الخطيرة ؟! أم أنه يمثل علي فيلم هندي لأتعاطف معه ؟!
من يدري ؟
كل شيء جائز . لم أطمئن له تماماً لكنني أميل إلى تصديقه.
أنا شخص بعد حالي ولم أتخيل يوما أن ألتقي في بلادنا بمن يتاجر بهذه الأشياء ، كنت أراها في الأفلام فقط .!!
قررت أن أسمع المزيد منه ، على الأقل سأكسب فكرة قصة ، دعوته للعشاء على حسابي ، ونحن نتعشى أخبرته :
ــ بصراحة أنا غير مستوعب هذه القصة كلها.
فوجئ بحديثي الصريح فتوقف عن الأكل وكأنه تجمد ، ثم ظهر عليه الارتباك وهم بالوقوف والانصراف لكنني أقسمت عليه أن يكمل العشاء معي وحتى أزيل إحراجه قلت :
ــ أنت شاب صادق لكن القصة غريبة .
وأضفت :
ـ هل أخبرت أحد قبلي ؟
أرتشف جرعة من الماء وتحدث :
ــ أخبرت أحد الشباب لكني فوجئت به يطلب مني أن أتوسط له ليعمل مع والدي ، تصور هذا الشاب طالب بالجامعة ؟!
وشغلني بالفعل يريد العمل مع والدي ، جاء لي إلى الشقة أكثر من مرة وأنا أتهرب منه وأعتذر ، وأقسم له أني هارب من أبي أصلاً .
كل الذين أعرفهم ويعملون مع الوالد في تجارة المخدرات غرقوا في مشاكل لا أول لها ولا أخر ، مصابون بأمراض لا حصر لها ، واحد عنده صمامات القلب تعالج بالأردن وألمانيا وبالأخير مات بالمستشفى ، لا يمر عليهم شهر واحد دون نكبة ، أو حادث ، حياتهم جحيم حقيقي .
اشرب الشاي وأنصت له:
تصدق يا أستاذ لي ثلاث سنوات هنا ما زرت أحد ولا أحد زارني ، ولا تحدثت مع أحد إلا بكلام عام ، واحدة دكتورة كنت أوصلها لما أختها تأخذ سيارتها ، لما بدأت أكلمها عن أهلي وألمح لها عن عمل والدي خافت وما عاد تتصل بي أوصلها .!
الواحد محتاج إنسان يتكلم معه ، يفضفض ، الوحدة قاتلة ، عايش لوحدي حياتي كوابيس ووحشة ، لكن الحمد لله أن رمضان جاء لأني سأرجع البلاد .. قاطعته :
ــ ترجع عند والدك ؟
ــ أرجع في رمضان إلى البيت من أجل أمي وأخواتي فقط ، الوالد في رمضان إنسان ثاني ، يعقد هدنة مع الله ومع خلقه .
ــ ولا يسألك أين كنت ؟!
ــ الوالد قال لي بصراحة:
ـ أنا قد تورطت في هذه التجارة وأنصحك تبتعد عنها .
ــ عجيب .!
ــ وما عرض عليك دعم تعمل لك مشروع ؟
ــ عرض علي ملايين ، حاول معي أسافر أدرس بالخارج ، لكني حرمت فلوسه رغم أن له تجارة أخرى في قطع غيار السيارات ، لكن أمواله ملوثة ولا خير فيها .
أنتهى مشواري معه ومازلت إلى الآن غير مصدق تماما للقصة التي رواها لي.!
*قصة قصيرة