الأحد 20 أبريل 2025 04:43 صـ 22 شوال 1446 هـ
االمشهد اليمني
Embedded Image
×

ليس سراً ما أفشيته يا يوسف الفيشي: هذي إمامة.. جدتي عارفهْ!

السبت 3 يونيو 2023 04:28 مـ 15 ذو القعدة 1444 هـ

قبل يومين، ظهر القيادي الحوثي يوسف الفيشي في فيديو قصير مُبشراً بالمكانة والصفة السيادية العليا التي يتصورونها لـ عبدالملك الحوثي -اليوم وفي المستقبل، فهو قائد ورمز "مقدس"، هكذا قال الفيشي، سلطة عليا دائمة فوق الدولة، مضيفاً أن هناك اليوم قائد وشعب فقط، لا أحزاب ولا ديمقراطية.

إلى جانب أن القليل من إمعان النظر في حاضر اليمن وماضيه كفيل بتحويل ما أفصح عنه الفيشي من نوايا إلى موضوع للسخرية والضحك، فإن من المثير للشفقة أن الرجل استعان لتجميل فكرته الرثة بأمثلة جميلة براقة من بلدان مختلفة من العالم، لكنه -وياللدهاء- تحاشى ذِكْر المثال الرديء الأقرب لما يدور في أذهانهم وما ينطق به خطابهم وأدبياتهم: المثال الإسلاموي الرجعي الشيعي الإيراني، حيث يكون "الولي الفقيه" نائب الإمام الغائب سلطة عليا دائمة لا يطالها التغيير ولا المساءلة ولا يدور حولها الخلاف.

في البداية يجب التأكيد على أن فحوى ما أراد الفيشي قوله ليس بالمفاجىء أبداً ولا بالصادم لمن يعرف الحوثيين حق المعرفة، ولا يوجد عاقل في اليمن إلا ويعرفهم.

هناك قصيدة للبردوني تبدأ بهذا الحوار الساخر:

(يا عم.. دبابات.. إني أرى..

هذا انقلابٌ.. جدتي عارفهْ).

ومن يسمع كلام الفيشي يجيز لنفسه استعارة وتحوير المقطع الأخير من البيت الشعري، ليكون هكذا:

(هذي إمامة.. جدتي عارفهْ).

قال الفيشي أن في اليابان إمبراطور..

هذا صحيح، وله قداسة ويتمتع بوضع دستوري وقانوني في بلد صناعي ديمقراطي يرفل سكانه في أرقى صور الرخاء ومباهج الحياة.

لم تكن معلومة كهذه خافية على آل بيت حميد الدين ولا على الأحرار اليمنيين، ومع ذلك لم يصبح البدر إمبراطوراً معبوداً، بل أطيح به بسبب سوء أعمال أسرته في حق الوطن، وأصبح هارباً ومخلوعاً في المخابىء السرية والكهوف.

قامت الجمهورية في صنعاء على ركام الحكم الظلامي البائد، وتنفس اليمنيون نسيم الحرية.

فمن الذي خدع الفيشي وقال له إننا صرنا اليوم في منتهى الجهوزية لتنصيب إمام أو امبراطور معبود، بينما لم نكن كذلك قبل نصف قرن أو قبل ألف عام؟

كان الشهيد محمد محمود الزبيري قد روى قصة ظريفة عن إعجاب أحد أمراء بيت حميد الدين بعبادة اليابانيين لامبراطورهم.

تقول القصة: "وتحرك سيف الإسلام الحسين، وهو العالم الورع الذكي الألمعي، الموثوق به ثقة عمياء عند والده، فقام برحلة طويلة شرقاً وغرباً في أنحاء العالم، وقال الناس: إن عهداً جديداً سيبدأ لأن أقطاب العائلة المالكة حينما يعرفون نهضات الشعوب يستطيعون أن يدركوا الطريق إلى نهضة اليمن، كما سوف يقنعون والدهم الإمام يحيى.

ولكن السيف الحسين، بعد رحلة سنين عديدة في الخارج، كلفت الدولة مبالغ ضخمة، عاد وهو يصرح لمستقبليه بأن أعظم شيء أعجب به في حياة الأمم الحديثة هو عبادة الشعب الياباني لإمبراطوره الإله المياكادو!

فكان هذا الأمير بعد رحلته كالأفعى سقيت سماً".

انتهت قصة الزبيري التي تخبرنا الكثير عن ذهنية الإمامة وما الذي يغريها في العالم الخارجي بتقليده والإعجاب به!

من الواضح أن قادة الجماعة يستخدمون أكثر من أسلوب وأكثر من لغة وأكثر من حيلة، وذلك بحسب نوع الجمهور.

وتلك المداورة والمغالطة التي يمكن ملاحظتها في حديث الفيشي تنوب عن الاعتراف صراحةً بأن مشروعهم هو الإمامة الزيدية.


الفيشي لم يستعن بالحجج الدينية الزيدية التي يستعينون بها كل يوم في مناشطهم ودوراتهم التثقيفية السرية.

أحاديث "آل البيت" و"العترة" و"أعلام الهدى"، كل هذه المفردات غابت في كلام الفيشي وحلت محلها مقارنات باليابان وبريطانيا بل حتى أمريكا!

ولا أحد يدري لماذا أضاف أمريكا التي يتغير فيها الرئيس كل أربع سنوات؟

لكن الناس ليسوا مخدوعين بما يقوله الفيشي وغير الفيشي، فما يحدثهم به واقع اليمن عن الحوثيين وبشكل مباشر هو أبلغ من كل حجّة وكل قول.

ثم ما الذي تغير اليوم كي تكون الفكرة -التي حاول الفيشي طرحها مموهة- صالحة لليمن، وهي الفكرة العتيقة الفاسدة التي برهنت تاريخياً على البوار والفشل طوال ألف ومئة عام؟

هل كان اللقب "إمام" هو بذاته الذي استدعى إسقاط الإمامة في 26 سبتمبر؟ وها قد أزالوا اللقب بعد ستين عاماً، ويا له من تنازل كريم وتمويه عبقري وعظيم!

يجب أن تكون على درجة من الوقاحة لكي تنتظر من الناس إقرارك في وضع سيادي امبراطوري إلهي (ياباني أو شيعي إيراني) بينما بلادك ممزقة ومحطمة بحروبك، تسبح في الدم ويحترق أبناؤها بنيران الفقر والتخلف والضياع! لكن الفيشي نسي أن يستشهد -لدعم الفكرة الحُلم- بدول الخليج، "دول العدوان".. فهي ممالك وسلطنات وراثية.

ونحن نتطوع هنا ونضيفها إلى قائمة الأمثلة، فقد كانت البلدان المجاورة ولا زالت ملكية سلطانية عندما قامت ثورة 26 سبتمبر في اليمن، ولم يكن ذلك مانعاً للأحرار والوطنيين عن إعلان الجمهورية في شمال اليمن وجنوبه.

وإذا كان الخليجيون قد غادروا عصور الظلام بفضل الثروة البترولية والسياسية التقليدية المحافظة، فنحن الفقراء في جنوب الجزيرة غادرنا عصور الظلام بفضل الثورة (ثورتي سبتمبر وأكتوبر) وبفضل النزعة التحررية الجمهورية.

لم تكن نتائج المسارين، في اليمن والخليج، هي نفسها بالطبع، وذلك لاختلاف الأحوال والأقدار والأعباء التاريخبة وتفاوت السمات الطبيعية والاجتماعية والتفاوت في الموارد والكثافة الديمغرافية، لكن على الأقل كنا نحن والخليجيين نسير نحو نفس الهدف من طريقين مختلفين، مدفوعين معاً بالرغبة في التزامن واللحاق بالعالم المتحضر.

كانوا يتقدمون علينا سريعاً في جوانب معينة بفارق الثروة وما بنشأ عنها من مزايا سياسية على الصعيد الداخلي والخارجي، وكنا نتقدم عليهم في جوانب قليلة أخرى بفارق النظام السياسي الجمهوري اليتيم في شبه جزيرة العرب.

ومنذ اللحظة التي عادت فيها الإمامة التي يبحث لها الفيشي عن اسم مختلف، خرج اليمن مرة ثانية من سكة التاريخ والحضارة، وعمّ الخراب والظلام.

نعم.. في العالم ممالك وامبرطوريات وجمهوريات وألوان أخرى كثيرة من الأنظمة والدساتير..

لا يوجد شخص لا يعرف هذا.

ومع ذلك، اليمن جمهوري بالطبع والتاريخ والغريزة وبالتجربة، أو لن يكون هناك يمن.

أما الجثة التي يعمل الفيشي وجماعته منذ سنوات طويلة على بعثها وإعادة تدويرها تحت طلاء جديد، فقد لفظتها الضمائر والقلوب، وحاضرها الكئيب خير دليل على ماضيها.

*المصدر أونلاين